عربي وعالمي

بريطانيا أسيرة الخوف: كيف أصبح شبح ليز تراس حارساً على أبواب القرار الاقتصادي؟

رغم خروجها السريع من الحكم، لا تزال أخطاء ليز تراس تقيّد حكومات ما بعدها، وتحوّل كل خطوة اقتصادية إلى رهينة لرد فعل "الأسواق".

في سبتمبر 2022، دخلت ليز تراس داونينغ ستريت برؤية اقتصادية شرسة: خفض الضرائب وتحفيز النمو بأي ثمن. لكن هذه المقاربة اصطدمت بحائط الواقع بسرعة صادمة. “الميزانية المصغرة” التي قدمتها لم تترك فقط ندبة مالية في الأسواق، بل خلقت صدمة نفسية سياسية ما زالت تتحكم في صناعة القرار الاقتصادي حتى اليوم. والفشل السريع خلف وراءه ما يمكن تسميته بـ”عُقدة تراس”، حيث تخشى النخبة السياسية تكرار أخطائها لدرجة تجميد أي تحرك جريء.

 

“الأسواق لا تغفر”… قاعدة غير مكتوبة تحكم بريطانيا

منذ تلك الأزمة، أصبحت الأسواق المالية بمثابة الحكم الأعلى على سياسات الحكومات. لم تعد البرامج الاقتصادية تُقَيَّم وفق ما تحققه من نتائج اجتماعية أو إنمائية، بل حسب مدى قبولها من قبل “الأسواق الافتراضية”. وهكذا، أصبح صانعو القرار أسرى لهذا المعيار غير المعلن، يتجنبون المجازفة حتى في ظل الحاجة الملحة للإصلاحات.

 

سياسات مالية مشلولة… وخوف يمنع الاستثمار

رغم أن قواعد الانضباط المالي ليست جديدة، فإنها تحولت بعد كارثة تراس إلى قيود غير قابلة للنقاش. الاقتراض صار محرماً إلا برضى أسواق السندات، والإنفاق مشروط بنمو غير مضمون. والنتيجة؟ تراجع الاستثمار في البنية التحتية، والخدمات العامة، والرعاية الصحية، والتعليم، رغم التآكل المستمر في هذه القطاعات.

 

قرارات اقتصادية بلا خطة… فقط لتفادي غضب السوق

أحدث الأمثلة على هذا الجمود كان في خفض إعانات ذوي الإعاقة، الذي جاء كرد فعل تلقائي على تراجع توقعات النمو، لا نتيجة استراتيجية واضحة.

المعيار الوحيد لاتخاذ القرار؟ هل ستغضب السوق أم لا؟

تقلص الدعم لكبار السن، والاقتطاعات المفاجئة، وحتى محاولات إصلاح ضريبة الثروة، كلها محاولات مشلولة تنتهي بالفشل أو التراجع.

 

الخوف من السوق… عقبة أمام التغيير الحقيقي

الأسواق لم تطلب مباشرة سياسة تقشف، لكن السياسيين يتصرفون وكأنها تفعل. وهذا الوهم هو الخطر الحقيقي. الرهبة من الأسواق أصبحت مثل رقابة ذاتية تمنع طرح أفكار طموحة، حتى تلك القادرة على تحقيق عوائد اقتصادية طويلة الأجل، كتوسيع الرعاية الصحية أو الاستثمار في الأطفال والتعليم.

 

الاستقرار المزيّف: حين يُختزل الحذر المالي إلى شلل سياسي

المفارقة أن ما يُقدَّم الآن على أنه “استقرار مالي” ليس سوى جمود مغطى بشعارات.

أي إصلاح جذري يُتهم بالتسرع، وكل اقتراح لزيادة الإنفاق يُرفض لحماية “ثقة السوق”. وهكذا، دخلت بريطانيا في دوامة بيروقراطية تخشى التقدم، وتفسّر الجمود على أنه حكمة.

 

الحل الثالث: كسر القيد لا الرضوخ له

ما تحتاجه بريطانيا ليس جولة تقشف جديدة ولا ضرائب مؤقتة، بل شجاعة سياسية لتغيير قواعد اللعبة نفسها. والاعتراف بأن الاقتراض الذكي من أجل الاستثمار طويل الأمد ليس خطراً بل فرصة، هو الخطوة الأولى نحو الخروج من الحلقة المفرغة.

 

الخلاصة:

رغم اختفاء ليز تراس من المشهد، ما زال “تحذيرها” حاضراً. لم تترك خلفها برنامجاً، بل تركت “عُقدة فشل” تعيق أي حكومة تجرؤ على التفكير خارج صندوق الأسواق. وحتى يظهر زعيم شجاع يقرر التحرر من هذا الخوف، ستظل بريطانيا تعيش في “عصر تراس”، لا كمرحلة سياسية، بل كمتلازمة اقتصادية.

سولين غزيم

سولين غزيم صحفية سورية ، تتميز بقلمها الجريء واهتمامها العميق بالقضايا الإنسانية والاجتماعية. تعمل على تسليط الضوء على هموم الناس بصوت صادق، وتنقل الحقيقة من قلب الحدث بموضوعية وشغف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى