إسبانيا الفلسطينية:دعم كبير و محبة تاريخية من فرانكو للحاضر

دعم منسجم متناغم : الإثبات الحي للدعم الأكبر و الأوسع عالميًا من بوصلة إسبانيا .
في يوم الاثنين الموافق 14 سبتمبر ، تمكن متظاهرون غاضبون و ثوار من الحشود الأسبانية بمنع الدورة الأخيرة المقدرة بالدورة ال23 من سباق VOLTAESPANA رافعين لوحات مكتوبة عليها شعارات لن يمروا ، و لن يشاركوا ، في إشارة جادة لرفض تام و عدم قبول بالفعل للإسرائيلين في المشاركة في السباق الأهم ، و هو يعد المرة الثانية بعد 38 عامًا من مقاطعته لأسباب سياسية في عام 1978 ، بقوام بلغ 100 ألف متظاهر بعبارة أخرى اعتبر حدثُُا فريدًا من نوعه .
و جدير بالذكر أن تلك الحادثة لقت احتفاءً واسعًا من رئيس الوزراء الأسباني بيدرو سانشنيز يمدح على الملء من وسط الشارع في مدريد بخطبة عامة في شوارع مكتظة بالسكان ، ليسمع الشارع بأكمله يصفق من وراءه بتحية بليغة تتفوق على الشعارات الجافة و الأحزاب السياسية و الاستقطابات المضرة و المقسمة ليجد نفسه مناهضًا للفاشية حكومة و شعبًا تحت شعار واحد بسيط و سلس للغاية يتمثل في الحرية لفلسطين وواجب دعم القضايا العادلة العربية و العالمية ، على رأسها القضية الفلسطينية التي تواجه تصفية بالقوة الغاشمة و العنف البربري الهمجي الوحشي المستمر طيلة العامين الماضين مسجلًا أكبر عدد من الشهداء الغزيين ، و المتمثل في حصيلة تبلغ 65 ألف شهيد و 165 ألف مصاب قابلة للزيادة الدورية .
و ليس هذا الموقف الأول و لا الأخير في المسار الإسباني الداعم للقضية و المناهضة للإبادة الجماعية تحت إدارة سانشيز إذ اتخذت أكثر من إجراء حاسم و حازم في وقف الإبادة الجماعية ، من ضمنها حزمة قوية من العقوبات العسكرية ، و تحويل المجالات الإسبانية كافة لمجالات مغلقة تمامًا برًا و بحرًا و جوًا ، ما يعكس نية إنسانية و بوصلة أخلاقية صادقة تنظر لما هو أبعد من الاقتصاد و السياسة لإن إجمالي من ألغته من صفقة الصواريخ بلغ المليار يورو ، و كذلك معاقبة أي وزير متطرف أو محكوم عليه من الجنائية الدولية و الالتزام بتحويله للجنائية الدولية في لاهاي ، مثير غضب وزير الخارجية الإسرائيلي ” جدعون ساعر ” ليضع إسبانيا بجانب الدول ” المحرضة شعوبها ” على الدعم القهري على شعوبها بأسلوب مثير للشفقة القصوى .
إن السياسة الداعمة لغزة من الشعب و الحكومة الإسبانية لهي ارتداد هام و حيوي عن الحقيقة القائلة بأن هذه الإجراءات الصارمة و الواضحة من ناحية الردع و المنع للاحتلال الإسرائيلي من توسعه المخيف على حساب الأراضي العربية ، فضلًا عن تحسين سمعة الدولة و الحصول المضمون على صوت الناخبين في الانتخابات البرلمانية كذلك ، و من المثير للإعجاب الكبير استمرار الإجراءات التصادمية مع الكيان اللقيط منذ يوم ٨ مايو ٢٠٢٤ ، حين أجاب رئيس الوزراء الإسباني على سؤال نائب إسباني يتناول منع التجارة مع الكيان برد صادم “نحن لا نتعامل مع دولة إبادة ” في أول تعبير صريح اصطلاحيًا عما ترتكبه إسرائيل البربرية في غزة .
فبجانب ذلك ، تفاقمت الأزمات المتعددة بين إسبانيا و الاحتلال، بطريقة ثاقبة و شكل صريح ، متدرجة على عدة مراحل متباينة منذ الاصطفاف التاريخي بجانب أيرالندا و النرويج بحسب تقرير أعده جون جيمس ، و روي كارول ، ما يعكس رغبة قديمة و وجود تاريخ ممتد يطول جذوره منذ النكبة ١٩٤٨ بمساعدة فاشية الجنرال فرانكو الذي دخل بها في حرب أهلية مطولة ، زراعًا جذر قوي و أصل ثابت بجعل السياسة الإسبانية متفردة بدعمها الدائم لقضايا العرب دائمًا و خاصة القضية الفلسطينية منذ بدايتها الدامية و المؤلمة .
فرانكو و فلسطين: غالبًا ما يأتي التطرف الفاشي بنتائج طيبة
بشكل مريب و غير ثابت، واقفت إسبانيا الفرانكوية بشكل أقرب للوضوح على الحياد في الحرب العالمية الثانية ، لتبدو في حقيقة الأمر أنها تدعم بالفعل ألمانيا النازية من تحت الترابيزة بطريقة خبيثة حيث أنه دعم هتلر اقتصاديًا و سياسيًا حتى الرمق الأخير ، و بدأ بالتقرب للعرب تدريجيًا لمصالح شخصية ساهمت فيما بعد غي تشكيل جبهة مستقلة، و حكومية في الوعي الداعم للقضية الفلسطينية ، متعاطفًا كذلك معهم باعتبارها ضحايا مقموعين ، آخذًا في الاستمرار الجلي دبلوماسيًا و سياسيًا و أكاديميًا بطريقة صاخبة عملية منحازة بوضوح للحق الفلسطيني الأصيل ليس فقط في الدولة ، بل في استقرار دائم و أمان شامل و نهائي .
فثبتت قوة و متانة العلاقة بين الفاشي فرانكو و العرب طيلة حكمه الممتد ل٣٠ عامًا متواصلة ساعده العرب فيها على الرجوع للأمم المتحدة بمحاولة ضغط قوية منيعة لاستعادة العضوية الكاملة بحق في نوفمبر ١٩٦٠ ، بعد محاولة استجداء فاشلة من الصهاينة في محاولة الرجوع للأمم المتحدة انتهت بإهانة فضائحية من الممثل الصهيوني أمام الأمم المتحدة في عام ١٩٤٩ أريا إيان عندما وصف نظام فرانكو أنه معاد للحضارة الإنسانية غيرها ، مع رضاها عنه عقب ذلك في سياق الحرب الباردة نظرًا لكونه مناهضًا للشيوعية حتى رفعت العقوبات الدبلوماسية عنه حتى وفاته المفاجئة عام ١٩٧٤.
فمع وفاته السريعة ، سارت إسبانيا باتجاه التحول الديمقراطي مع إبقاء جانب واحد فقط من الإرث الثقيل لفرانكو في دعمه لقضايا العرب العادلة ، و على رأسها القضية الفلسطينية متجلية في عدة مواقف و أحداث واضحة على رأسها خطبة فيليبي جونزلانز الممثل الإسباني لدى الأمم المتحددة عام ١٩٧٩ أنه يجب العودة لحدود فلسطين التاريخية ما قبل النكسة عام ١٩٦٧م ، أي كامل الأراضي المحتلة .
وردت كذلك في سلوك إسبانيا باعتبارها مؤيدة لفلسطين تمنعها عن الانضمام للجماعة الاقتصادية الأوربية التي تحولت فيما بعد للاتحاد الأوربي نظرًا لزيادة رؤساء وزرائها عقب فرانكو لها سواء كان أدولف سوارزيز أو باول الفونسو في زيادهما لياسر عرفات في فلسطين سنة 1979 و 1992 مؤكدين على التزامها القطعي بالقطعية مع ” الكيان المارق ” لكنها رضخا في النهاية قسرًا للاعتراف به ، محتلة المركز الأخير في الدول المعترفة به أوربيًا لارتباطها بمصالح التبادل التجاري الحيوية بينها و بين دول أوربا ، و هكذا مثلما لعب فرانكو الفاشي دورًا في القطعية مع الحكم الاستبدادي و الاعتراف بإجرام الاحتلال الغاشم ما يدفع للنظر بشكل أكثر تفصيلًا نحو استشراف المستقبل الدبلوماسي و السياسي بينهما ، حتى بعد انتهاء الحرب الضروس على القطاع المحاصر.
فلسطين محرك و ساحة تنافس سياسية إسبانية : تلاشي الفروق من أجل وقف الإبادة
في استطلاع رأي عام قامت به مؤسسة elscano الاستراتيحية ، وضح بتجل لافت و تبيان مدهش أن الفروقات السياسية في قضية الإبادة الجماعية في غزة ، و ضم الضفة الغربية لهي محض هراء حقيقي لإنها باختصار شديد تقاطع فطري و إيقاظ للروح الإنسانية فمن المدهش إيجاد أن إجمالي داعمي وقف الإبادة يصل ل62% من اليمينين ، أما بالنسبة لليسار فالوضع متشابه لغاية الاندهاش و التعجب ، لإن من يدعم الأمرين يصل لحوالي من 65 ل80 % من إجمالي الإسبان كلهم من ذوي اليسارين الاشتراكي و اللبيرالي ، منحين خلافاتهم السياسية جانبًا ، و شاعرين بالاتصال التاريخي بالاندلس ، فضلًا عن كون إسبانيا هي من أنشط الدول أكاديميًا و ترجمة في القضية الفلسطينية و الدراسات الأندلسية تباعًا
و علاوة على هذا الأمر ، فإن القضية الفلسطينية ، كما اعتبرتها صحفية التلغيراف ، ساحة تنافس قوي و بين بين القوى السياسية و الاجتماعية المختلفة بحق ، فمن يضع غزة و القضية ككل هو من يضمن الفوز الحتمي بالانتخابات البرلمانية مثل حزب قادرون الشعبوي ، و حزب العمال الاشتراكي اليساري المنتمي له رئيس الوزراء الحالي بيدور سانيشز ، و الذي قد سبق له إعلانه الاهتمام و ” رعاية ” القضية الفلسطينية بمجرد فوزه برئاسة الوزراء في عام 2015 ، مجسدين المعني الحقيقي لسلطة القيم الرفيعة و المبادئ القيمية على حساب الوحشية الغاشمة و الضخمة للغاية .
بالإضافة للبعد الإنساني ، فإن امتداد الشعور العميق بأهالي غزة تحديدًا ينبع من إحساس بالمعاناة الشديدة و الألم المشترك سواء نجم عن المعاناة الإسلامية للمورسكيين في إسبانيا حتى وقت قريب أو معاناة الشعب نفسه من حكم فرانكو ، و لعل هذا ما جعل النائبة السابقة إيلتكر يورنجيث في مقال لها على النسخة الإنجليزية من le monde diplomatique تحدد فيها أن هناك العديد من الحالات الإنسانية الفريدة التي ذكرتها بأهوال حكم فرانكو الفاشي “التي لم “تراها غير في غزة فقط ، و هذا اتفق فيه جموع الإسبان الذين نزلوا للشوارع مدة 22شهر متواصلين ، مرورًا بتحية جماعية لأسطول الصمود العالمي المكون من 10 سفن أسبانية حصرًا بمعدل ربع السفن المبحرة لغزة في موجة عصية على الكسر ، و بخاصة عند إرسال إسبانيا فرقاطة حربية ضخمة لحماية الأسطول من الغطرسة الحربية الامنتاهية .
في هذا السياق ،يقيم العنف الإبادي دوره الواعي في إعادة التشكيل لكل القيم و المبادي الرفيعة ، و يطبق نظريتي الفيلسوف الأمريكي إريك هوفر في كتابه “المؤمن الصادق ” ، و كذلك الفيلسوف الكمبودي أشييل ميبمي في كتابه سياسات الوحشية تحقق معادلة جديدة ” أن من الحمق و الجنون و الألاخلاقية أن تشاهد الوحشية و تدجن عليها ” لإنها محبطة مطبعة مربية تربة صعبة التخلص منها ، و هذا هو النهج الإسباني في خلال عامين أسطوريين من موقف نادر نبيل يتمتع بخصوصية ” استعمارية ” لكنها تحولت لخصوصية قيمية صافية ، مكمنها أنت معنا أو ضدنا ، فلا شر أكبر و لا أعظم من ترك الإبادة تجرى و تستمر فقط من أجل مصالح ضيقة تتعلق بالهيمنة الإسرائيلية بقبضة حديدية على آخر حصن من البشرية الأخلاقية المجردة من أي هوى أو عنصرية و البيضاء .
فتلك الإجراءات العملية لهي تغيير واضح و صريح في التوجه العام ، بل تتخطى حدود التاريخ و الجغرافيا ، لمعرفة واضحة و استعياب صريح على إن الكيان الإسرائيلي يعتمد على عدة أدوات استراتيجية و إعلامية محددة ، أو مثلما يقول المؤرخ و عالم السياسة اليهودي نورمان فليكاشتين “استشهاد غزة دليل ضعف و خوار بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي “في كتابه غزة :بحث في استشهادها ، ما يعني بالضرورة أن الحرب معه يمكن أن تكون بعدة أشكال ناعمة و أدوات غير صلبة غير التدخل العسكري المباشر .
و هذا تحقق آخر لنبوءات تاريخية ، و عسكرية بأن الاستعمار هو منهج حياة و طريقة مقيتة في إثبات استراتيجية عسكرية مفادها أن الخصوصيات و النماذج الاستعمارية تتكالب على غزة لإنها أضحت بوصلة أخلاقية و قيمية و عسكرية ، بل قل معجزة جعلت إسبانيا تتوحد على دعمها بشكل يتعالى على أي أفكار نظرية أو خلافات سفيهة تتمحور حول قضايا الداخل و الأمن القومي خاصة ، لإن مثلما يقول عمر العقاد الإبادة لن تتوقف على غزة بل إنها عدوى “قاتلة و فتاكة “للعالم أجمع.