الملك تشارلز يكسر صمته السياسي: خطاب في كندا يلمح لرفض نهج ترامب

رغم أن الملكيات الدستورية في العصر الحديث غالبًا ما تُعامل كرموز بلا تأثير سياسي مباشر، فإن تحركات الملك تشارلز الثالث تشير إلى نموذج مختلف آخذ في التشكل: ملك لا يكتفي بالجلوس على العرش، بل يستخدم موقعه الرمزي لإرسال رسائل سياسية دقيقة ومقصودة، وإن جاءت في ثوب من الحياد الدستوري.
في زيارته الأخيرة إلى كندا، تجلّت ملامح هذا التوجه بوضوح. ففي لحظة حرجة من التوترات العالمية وصعود الشعبوية، بدا أن تشارلز لم يأتِ ليكرّر مراسم بروتوكولية، بل ليقدم موقفًا سياسيًا مغلفًا بلغة الوحدة والقيم المشتركة. فهل نحن بصدد مرحلة جديدة في دور الملك البريطاني؟ وهل تستطيع المؤسسة الملكية النجاة من تداعيات هذه الجرأة الرمزية؟
زيارة كندا: تقليد بروتوكولي أم رسالة سيادية؟
لم يزر أي ملك بريطاني كندا لافتتاح دورة برلمانية منذ خمسين عامًا. ومع ذلك، قرر تشارلز أن يقوم بهذه الخطوة غير المألوفة، استجابة لرؤية رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، الذي أراد تعزيز شعور السيادة الكندية في وجه ما وصفه بالتهديد السياسي الوجودي القادم من الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب.
الزيارة كانت رمزية بكل معنى الكلمة، لكنها أيضًا مثقلة برسائل غير معلنة. لقد لعب الملك دور “الضامن الأخلاقي” لوحدة كندا واستقلالها السياسي، في لحظة إقليمية مضطربة.
خطاب موجه… دون ذكر ترامب
الملك لم يذكر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالاسم، لكنه كان حاضرًا في كل جملة تقريبًا من خطابه. تحدث تشارلز عن أهمية القانون، والديمقراطية، والتعددية، والتجارة الحرة، مؤكّدًا أن كندا تمثل “قوة للخير” في العالم. وختم خطابه بالعبارة الشهيرة من النشيد الوطني الكندي: “الشمال الحقيقي قوي وحر”.
كل ذلك بدا وكأنه رد غير مباشر على نزعات الانعزال والعدوانية التي يمثلها ترامب، والتي تتناقض مع النموذج الكندي – بل والبريطاني – لما يجب أن تكون عليه الدولة الليبرالية الحديثة.
انفصال واضح عن نهج الملكة إليزابيث
الاختلاف بين تشارلز ووالدته الملكة إليزابيث الثانية واضح. فبينما حرصت الأخيرة على الصمت والتجرد من أي تلميح سياسي طوال سبعة عقود، لم يخفِ تشارلز اهتماماته العامة حتى قبل اعتلائه العرش. ومنذ توليه الحكم، لم يتخلَّ عن هذا التوجه بالكامل، وإن كان بحذر أكثر اتساقًا مع دوره الجديد.
ملكية على الحافة: رسائل سياسية في الداخل والخارج
زيارة كندا ليست الوحيدة ذات الطابع السياسي. تشارلز قام بسلسلة من التحركات اللافتة:
-
دعم علني لوحدة المملكة المتحدة في مواجهة النزعات الانفصالية.
-
مرافقة زعيم المعارضة كير ستارمر في زيارات محلية تحمل رسائل اجتماعية.
-
زيارات إلى عواصم أوروبية تتماشى مع توجه الحكومة لإصلاح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.
-
استقباله العلني للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعد انتقادات ترامب له.
-
إشادة خاصة بالعاملين في القطاع الصحي في رسالته الميلادية الأخيرة.
كل هذه التصرفات تشير إلى ملك لا يريد أن يكون مجرد ظل تقليدي، بل ضميرًا رمزيًا حاضرًا في الحياة العامة.
الرأي العام متعاطف… لكن إلى متى؟
حتى الآن، يحظى تشارلز بتعاطف شعبي واسع، مدفوعًا جزئيًا بوضعه الصحي وتعقيدات حياة العائلة المالكة. كما أن انتقاد ترامب لا يمثل مخاطرة حقيقية في السياق البريطاني الحالي. لكن هذا “الرصيد الرمزي” ليس مضمونًا على المدى الطويل، خصوصًا إذا ما تبدّلت المزاجات السياسية.
سيناريوهات المستقبل: هل يبقى الملك على الحياد؟
القلق الحقيقي يكمن في المستقبل القريب. ماذا لو وصل نايجل فاراج إلى الحكم عام 2028 وتحالفت حكومته مع تيارات يمينية أمريكية متطرفة؟ كيف سيتصرّف ملك يؤمن بأجندة خضراء وبتعددية ثقافية في وجه حكومة قد تعادي تلك القيم؟ وهل يمكن للملك أن يواصل لعب دور رمزي دون أن يصطدم مباشرة مع السلطة التنفيذية؟
المؤسسة الملكية في اختبار جديد
ما يقوم به تشارلز اليوم هو استعراض لقدرة الملكية على التكيف مع عالم متغير، لكنه أيضًا مقامرة محسوبة. فالتاريخ لا يرحم، ومكانة التاج ليست محصنة من التآكل، خاصة إذا قرر الملك أن يعبر عن مواقفه بجرأة في بيئة سياسية بريطانية متقلبة.
فهل تنجح المؤسسة الملكية في عبور هذا الحقل المزروع بالألغام الرمزية والسياسية؟ أم أن هذه الجرأة قد تكون بداية لمساءلة جديدة حول جدوى استمرار الملكية في العصر الحديث؟