“ترامب والتناقضات: من محاربة النفوذ الأجنبي إلى قبول هدايا بقيمة 400 مليون دولار”
تحولات ترامب: من انتقاد النفوذ الأجنبي إلى قبول الهدايا الفاخرة

منذ حملته الانتخابية الأولى عام 2016، تبنّى دونالد ترامب خطابًا شديدًا ضد ما وصفه بـ”الفساد الناتج عن النفوذ الأجنبي”، موجّهًا انتقادات حادة إلى مؤسسة كلينتون لقبولها تبرعات من دول مثل قطر والسعودية. آنذاك، اعتبر ترامب أن قبول مثل هذه الأموال يجعل السياسي “مرتهنًا” للمصالح الخارجية، مشككًا في أخلاقيتها، ومشيرًا إلى انتهاكات تلك الدول في مجال حقوق الإنسان. لكن اليوم، وبعد ما يقرب من عقد، يقف الرئيس السابق على النقيض تمامًا من مواقفه السابقة، مؤيدًا قبول طائرة فاخرة من الحكومة القطرية تبلغ قيمتها 400 مليون دولار، لاستخدامها كبديل عن “إير فورس ون”، ثم تحويلها لاحقًا إلى مكتبته الرئاسية. هذا التحول الجذري يطرح تساؤلات جدية حول الاتساق السياسي ومصداقية الخطاب الأخلاقي في السياسة الأميركية.
من انتقاد التبرعات القطرية إلى احتضانها
خلال مناظرة في أكتوبر 2016، هاجم ترامب تبرعات السعودية وقطر لمؤسسة كلينتون، متسائلًا: “تتحدثون عن حقوق النساء؟ هذه الدول تقتل المثليين وتضطهد النساء، ومع ذلك تقبلون أموالهم”. لم تكن تصريحاته حينها مجرد حملة انتخابية، بل كانت تعبيرًا واضحًا عن موقف أخلاقي مفترض ضد النفوذ الأجنبي.
لكن في مايو 2025، يدعو ترامب لقبول “هدية عظيمة” من قطر — طائرة رئاسية فارهة ستُستخدم رسميًا ثم تُهدى لاحقًا لمؤسسته الرئاسية. ويبرر الموقف قائلاً: “من الغباء أن نرفض مثل هذه الهدية”.
ازدواجية المعايير: من الاتهام إلى التبرير
ما بين “دفع المال مقابل النفوذ” في 2016، و”بادرة سخية” في 2025، تظهر مفارقة صارخة. فحين تعلق الأمر بكلينتون، كان مجرد قبول التبرع مدعاة للاتهام بالفساد، بينما حين يستفيد ترامب من هبة أكبر من حيث القيمة، يصبح الأمر مشروعًا، بل “ذكيًا”.
ويزيد الطين بلة أن ترامب كان قد قال سابقًا إن “أي تبرع من حكومة أجنبية يأتي مشروطًا”، وإنه رفض شخصيًا عرضًا بـ5 ملايين دولار من لوبي أجنبي لأنه “سيأتي يومًا ويطلب مقابلًا لذلك”. اليوم، ذات المنطق يبدو غائبًا.
المصالح تغير المواقف: قطر من داعمة للإرهاب إلى شريك اقتصادي
في 2017، وصف ترامب قطر بأنها “داعم رئيسي للإرهاب”. واليوم، ترتبط عائلته بأعمال تجارية مباشرة مع الدولة الخليجية، إذ ضخّ صندوق الثروة السيادي السعودي ملياري دولار في شركة جاريد كوشنر، كما أُعلن مؤخرًا عن مشروع عقاري ضخم لعائلة ترامب في قطر بقيمة 5.5 مليار دولار.
حتى بام بوندي، المسؤولة القانونية التي بررت قانونيًا هدية الطائرة القطرية، كانت مسجلة سابقًا كلوبي لصالح الحكومة القطرية. وهكذا تتشابك السياسة بالاقتصاد، في مشهد يذكّر بنماذج “الدولة العميقة” التي ندد بها ترامب بنفسه مرارًا.
الاعتبارات القانونية مقابل اعتبارات النزاهة
رغم أن الهدية القطرية قد تكون قانونية من الناحية الشكلية، خصوصًا إذا تم استخدامها رسميًا، فإن السؤال الأهم يتمثل في: هل هي مقبولة من الناحية الأخلاقية والسياسية؟. بحسب ترامب، فإن استخدام الطائرة لن يكون شخصيًا بعد مغادرته المنصب، مما قد يوفر له “غطاء قانوني”، لكن يبقى الغموض قائمًا حول ما قد تقدمه هذه الدول بالمقابل، لا سيما في غياب الشفافية التامة.
الخطاب السياسي بين المبادئ والبراغماتية
تُبرز هذه القضية مثالًا صارخًا على التناقض بين الشعارات السياسية والممارسة الفعلية. فالرئيس الذي تعهد بـ”إخراج المال الأجنبي من السياسة الأميركية” بات اليوم أكثر تقبلًا للهبات الأجنبية الكبرى — شريطة أن تصب في مصلحته المباشرة أو المؤسسات المرتبطة به. ومثل هذا التحول لا يمر مرور الكرام، بل يعيد إلى السطح أسئلة ملحة حول النزاهة، استقلال القرار السياسي، ومدى إمكانية الوثوق بأي خطاب انتخابي مبني على محاربة “الفساد”.