الصحة والتعليم

الايكونوميست: تراجع القراءة ازمه فكرية تهدد السياسية الحديثة

 

في العقود الأخيرة، لم يعد الجدل حول القراءة مقتصرًا على المثقفين أو الأكاديميين، بل أصبح قضية عامة ترتبط بشكل مباشر بمستوى التفكير السياسي والاجتماعي. تشير الدراسات الحديثة إلى أن معدلات القراءة في انحدار متواصل بين الكبار والصغار على حد سواء، مما يثير قلق العلماء والخبراء حول مستقبل التفكير النقدي والقدرة على التعامل مع النصوص المعقدة. لم يعد الأمر يتعلق فقط بضعف عادة القراءة، بل بظهور نمط جديد من النصوص القصيرة والمبسطة التي تعكس وتغذي في الوقت ذاته عقلية سطحية. فالانتقال من قراءة جُمل طويلة ومعقدة كما في أعمال تشارلز ديكنز أو جون رسكن إلى نصوص قصيرة وبسيطة مثل كتب المساعدة الذاتية المعاصرة، يعكس تغيرًا عميقًا في طبيعة التفكير الجماعي. هذا التحول ينعكس بدوره على الخطاب السياسي، حيث تتقلص خطب البرلمانات والرؤساء في طولها ومستواها الفكري. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل تراجع القراءة يقود فعلًا إلى انحدار في مستوى السياسة، أم أن المسألة مجرد انعكاس طبيعي للتغيرات التكنولوجية والاجتماعية؟

تراجع معدلات القراءة عالميًا

تشير الأبحاث إلى أن معدلات القراءة انخفضت بشكل حاد خلال العقدين الماضيين. ففي الولايات المتحدة، انخفضت نسبة من يقرؤون للمتعة بمقدار الثلثين تقريبًا، بينما أظهرت استطلاعات في بريطانيا أن 40% من البالغين لم يقرأوا كتابًا واحدًا في عام 2024. اللافت أن هذا التراجع لم يقتصر على الفئات الأقل تعليمًا أو الأقل دخلًا، بل شمل الجميع بما فيهم طلاب الجامعات. هذا التوجه يهدد بخلق “فجوة قرائية” بين الأجيال، ويجعل من مهارات الفهم والتحليل قدرات نادرة. التراجع لا يُفسر فقط بانشغال الناس بالهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، بل يعكس أيضًا ضعف الرغبة في الاستثمار الذهني المطلوب للتعامل مع النصوص الطويلة والمعقدة. هذا التوجه يثير القلق بشأن قدرة المجتمعات على إنتاج نخب فكرية قادرة على قيادة النقاشات السياسية والفكرية بعمق.

تحولات في طبيعة النصوص المقروءة

لم يتوقف التغيير عند انخفاض معدلات القراءة، بل امتد إلى طبيعة النصوص نفسها. ففي تحليل لمئات الكتب الأكثر مبيعًا، تبين أن متوسط طول الجملة انخفض بمقدار الثلث منذ ثلاثينيات القرن الماضي. بينما كان جون رسكن يفتتح كتبه بجمل تتجاوز 150 كلمة، نجد أن الكتب الأكثر مبيعًا اليوم تبدأ بجمل لا تتعدى 20 كلمة، تحمل رسائل مباشرة وسطحية. هذا التحول يعكس تراجعًا في القدرة على معالجة الأفكار المعقدة، ويؤشر على ميل متزايد نحو السرد السهل والسريع. وإذا كان الخطاب الثقافي بهذا المستوى، فمن الطبيعي أن ينعكس الأمر على السياسة، حيث تصبح الخطابات أبسط، وأحيانًا أكثر فقرًا في المضمون، استجابة لمستوى المتلقي الجديد.

القراءة بين الماضي والحاضر

المفارقة أن القراءة لم تكن يومًا أمرًا سهلًا أو مريحًا، بل كانت دائمًا تتطلب جهدًا ومثابرة. في العصر الفيكتوري، كان العمال في المدن الصناعية يقتطعون من قوت يومهم لشراء الكتب، وكانت الجمعيات الشعبية تشجع على المطالعة كوسيلة للارتقاء الاجتماعي. أما اليوم، فبينما أصبحت الكتب أرخص ومتاحة إلكترونيًا بالمجان، تراجعت الرغبة في قراءتها. هذا التناقض يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت المشكلة في غياب الدافعية الثقافية، لا في غياب الوسائل. فحينما كان الكتاب يساوي ثمن نصف أسبوع من العمل الشاق، كان يُنظر إليه كاستثمار في الذات. أما اليوم، ورغم أن الكتاب قد لا يكلف أكثر من كوب قهوة، فقد بات يُنظر إليه كعبء ممل.

أثر القراءة على الخطاب السياسي

تشير الدراسات إلى أن مستوى الخطاب السياسي يرتبط بشكل مباشر بمستوى الثقافة القرائية في المجتمع. ففي بريطانيا، أظهرت التحليلات أن خطب البرلمان تقلصت بمقدار الثلث خلال عقد واحد، بينما أظهرت دراسة لخطابات الرؤساء الأمريكيين عبر 250 عامًا أن مستوى الصعوبة اللغوية انحدر من مستوى الدراسات العليا في عهد جورج واشنطن إلى مستوى الثانوية العامة مع دونالد ترامب. ورغم أن تبسيط اللغة قد يبدو إيجابيًا من حيث الوضوح، إلا أن تراجع التعقيد قد يعكس تراجع القدرة على صياغة أفكار عميقة ومعقدة، مما يقلل من مساحة النقاش السياسي الجاد.

تلاشي القدرة على التفكير المركب

يحذر الأكاديميون من أن فقدان القدرة على قراءة النصوص الطويلة والمعقدة قد يؤدي إلى فقدان القدرة على تطوير أفكار مركبة. فالقدرة على استيعاب نصوص مثل “بيت كئيب” لديكنز لا تتعلق فقط بفهم الأدب، بل بقدرة العقل على التعامل مع التناقضات وتحليل الأفكار المتشابكة. ومع سيادة الخطاب المبسط والرسائل المختصرة في 280 حرفًا، يخشى بعض العلماء أن تتحول السياسة والفكر إلى مساحات سطحية، تفتقر إلى العمق والقدرة على معالجة التحديات المعقدة.

القراءة كأداة للحراك الاجتماعي

لطالما شكلت القراءة جسرًا للحراك الاجتماعي، خاصة للفقراء والمهمشين. الأمثلة التاريخية عديدة: من الرعاة في المرتفعات الاسكتلندية الذين تبادلوا الكتب عبر جدران الحقول، إلى العمال الذين جمعوا أموالهم لشراء مؤلفات كلاسيكية. هذه التجارب تؤكد أن القراءة لم تكن مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة للتمكين الاجتماعي والسياسي. أما اليوم، فإن تراجع معدلات القراءة قد يهدد هذه الوظيفة، مما يترك الفقراء أكثر عُرضة للتهميش، ويعمق الفجوة بينهم وبين الطبقات الأكثر تعليمًا وثقافة.

التكنولوجيا وإعادة تشكيل العقول

لا يمكن تجاهل أثر التكنولوجيا في هذه الأزمة. فالهاتف الذكي والإنترنت أعادا تشكيل أنماط الانتباه والذاكرة. لكن من المبالغة اختزال الأزمة في التكنولوجيا فقط، إذ إن القراءة كانت دائمًا في منافسة مع الملهيات. الفرق أن الملهيات الحديثة مصممة بعناية لاستغلال نقاط ضعف الدماغ، مثل الميل إلى المكافآت الفورية. ونتيجة لذلك، لم يعد العقل قادرًا على الاستثمار الطويل في نصوص معقدة، ما ينعكس على طريقة التفكير السياسي والاجتماعي. التحدي إذن يكمن في التوفيق بين الأدوات الرقمية الحديثة والحفاظ على مهارة القراءة العميقة.

مستقبل القراءة والسياسة

رغم الصورة القاتمة، لا يزال بالإمكان إحياء عادة القراءة عبر سياسات ثقافية وتعليمية تشجع عليها منذ الطفولة. المطلوب ليس فقط تعليم القراءة كمهارة أساسية، بل غرسها كعادة يومية تمنح المتعة والمعنى. فحينما يضعف حضور الكتاب في الحياة اليومية، يضعف معه مستوى الحوار العام، وتصبح السياسة أكثر سطحية. الحفاظ على القراءة ليس رفاهية نخبوية، بل ضرورة لحماية الديمقراطية نفسها. فالقدرة على التفكير النقدي والتحليل العميق لا تنمو إلا في بيئة ثقافية تُعلي من قيمة الكتاب والكلمة المكتوبة.

اقرا ايضا

اطلاله أنيقة لهيدي كرم تشعل تفاعل جمهورها علي إنستجرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى