كيف يُجَوّع مسحوق السمك السنغالي إفريقيا ويُغذي أسماك أوروبا المستزرعة
السمك الذي يُجَوّع إفريقيا ويُطعِم أوروبا

في مشهد عبثي يعكس مفارقات الاقتصاد العالمي، يُنقل السمك الذي يُصطاد من سواحل السنغال، البلد الذي يواجه أكثر من نصف سكانه صعوبات في الحصول على غذاء كافٍ، ليُحوّل إلى مسحوق يُستخدم في تغذية الأسماك داخل مزارع أوروبا، وعلى رأسها تركيا، قبل أن ينتهي به المطاف في أطباق البريطانيين. تحقيق استقصائي أجرته صحيفة “الغارديان” بالتعاون مع منصة “دي سموغ” البيئية، يكشف عن تشابك غير مرئي بين استهلاك الأوروبيين لأسماك مستزرعة مثل القاروص والدنيس، وتجويع المجتمعات الساحلية في غرب إفريقيا، خاصة النساء العاملات في قطاع تصنيع السمك. ورغم أن هذا المسحوق كان يُنتج سابقًا من بقايا الأسماك غير القابلة للاستهلاك، إلا أن الطلب المتزايد عليه حوّله إلى وحش يلتهم الأسماك الكاملة، ما أدى إلى ندرة في الغذاء المحلي، وزيادة معدلات الفقر والهجرة. هذا هو الوجه الآخر لوجبة بحرية شهية في مطاعم لندن: وجهٌ أفريقي جائع ومحروم.
من البحر إلى الحاوية: طريق السمك من السنغال إلى أوروبا
خلال السنوات الأربع الماضية، صدّرت مصانع سنغالية مثل “أوميغا فيشينغ” و”أفريكا فيد” و”أفريك أزوت” آلاف الأطنان من مسحوق السمك إلى شركات استزراع تركية، أبرزها “كيليتش دينيز”، التي تُعد من أكبر مورّدي القاروص والدنيس إلى السوق البريطانية. هذه المصانع، التي تنتج مسحوق السمك المستخدم في تغذية الأسماك المستزرعة، تعتمد بشكل متزايد على الأسماك الكاملة – خصوصًا الصغيرة منها – بدلًا من استخدام المخلفات. ويُظهر تتبع بيانات التصدير أن 5 ملايين شريحة فيليه من القاروص والدنيس المستزرع وصلت إلى بريطانيا بين 2020 و2024، وكلها مرّت عبر سلاسل توريد متشابكة تبدأ من قوارب الصيادين السنغاليين وتنتهي في أطباق البريطانيين.
النساء أول الضحايا: انهيار الاقتصاد المحلي للسمك
تُعد النساء العمود الفقري لمعالجة السمك في السنغال، حيث يشغلن أكثر من 80% من الوظائف في القطاع غير الرسمي. لكن مع تزايد شحنات السمك إلى مصانع مسحوق السمك، باتت النساء يعانين من نقص حاد في المادة الخام التي يعتمدن عليها في كسب لقمة العيش. تقول عائشة واد، وهي من القلائل المتبقيات في سوق جوال: “نأتي كل يوم ونعود دون بيع أي شيء. لم يعد هناك سمك”. ويؤثر هذا التحول أيضًا على الأمن الغذائي للأطفال والأسر، ويهدد مستقبل آلاف النساء اللواتي لا يملكن بديلًا آخر للدخل.
تغذية الأسماك على حساب البشر
مسحوق السمك الذي يُنتج في السنغال يُستخدم في تغذية الأسماك المستزرعة – وهي صناعة تُعد الأسرع نموًا في العالم. المفارقة أن الأسماك التي تُستخدم في إنتاج هذا المسحوق، مثل سمك “بامبرز” و”بيغ آي غرانتس”، تُعد مصدرًا رئيسيًا للبروتين للسكان المحليين. إذ يُقدّر أن الكمية التي استوردتها شركة “كيليتش” وحدها خلال أربع سنوات – نحو 5400 طن – كانت كافية لتوفير احتياجات مليوني شخص سنويًا من البروتين. هذا يعني أن ملايين الوجبات أُخذت حرفيًا من أفواه السنغاليين لتُطعم أسماكًا تُباع لاحقًا كسلعة فاخرة في لندن وبرمنغهام.
سلسلة التوريد: من الصياد إلى السوبرماركت
السوق البريطانية تستقبل القاروص والدنيس التركي عبر شركتي “نيو إنغلاند سيفود” و”أوشن فيش”، وهما وسيطان يزوّدان سلاسل كبرى مثل “ويتروز”، “ألدي”، “كو-أوب”، و”ليدل”. وتُظهر الوثائق الجمركية وتحليلات البيانات أن جزءًا كبيرًا من هذه الأسماك مصدره شركة “كيليتش”، التي تتغذى أسماكها على مسحوق السمك السنغالي. وبرغم مساعي هذه السلاسل لإظهار التزامها بالاستدامة من خلال شهادات “ASC”، فإن غياب الشفافية في سلاسل التوريد يُخفي الأثر الحقيقي لهذا الاستهلاك على المجتمعات المُصدّرة.
شهادات الاستدامة… غطاء أخضر يخفي الاستغلال
تلجأ بعض الشركات الأوروبية إلى شهادات الاستزراع المستدام مثل ASC لإضفاء شرعية أخلاقية على منتجاتها. لكن هذه الشهادات لا تُلزم الشركات بكشف المصادر الدقيقة لمسحوق السمك المستخدم، ما يسمح باستخدام مسحوق من مناطق متأزمة مثل السنغال دون الكشف للمستهلك. بل إن بعض الشهادات تسمح بنسبة معينة من المكونات “غير الموثقة” ما دامت لا تتجاوز الحد المسموح به. وهذا ما يجعل المنتجات تبدو صديقة للبيئة بينما هي في الواقع جزء من حلقة استغلال عالمي.
معاناة الصيادين المحليين: البحر لا يطعم أبناءه
الصيادون السنغاليون يجدون أنفسهم عالقين بين مطرقة المصانع التي تشتري كامل صيدهم بأسعار منخفضة، وسندان تراجع المخزون السمكي نتيجة الاستغلال المكثف. يقول عبدو كريم صال، رئيس شبكة الصيادين في جوال، إن عشرات من شباب البلدة هاجروا إلى أوروبا عبر جزر الكناري بعدما ضاقت بهم السبل. ويضيف: “كان البحر يعيلنا، الآن لا نملك حتى ما نأكله. نحن نُصدّر الجوع”.
الحكومة السنغالية: دعم المستثمرين على حساب الشعب
تتهم منظمات بيئية الحكومة السنغالية بالتقاعس عن تنظيم قطاع تصدير مسحوق السمك، بل وتقديم تسهيلات للمستثمرين الأجانب دون مراعاة الأثر المحلي. فقد أُعطيت تراخيص لمصانع تعمل دون رقابة بيئية صارمة، وسط غياب شبه كامل لسياسات تحمي مصالح الصيادين والعاملين المحليين. وفي ظل الضغوط الاقتصادية والدين الخارجي، تبدو الحكومة عاجزة أو غير راغبة في وقف النزيف.
الوعي الأوروبي الغائب: المستهلك لا يعرف شيئًا
معظم المستهلكين في بريطانيا لا يدركون أن الوجبة البحرية التي يتناولونها تأتي على حساب مجتمعات إفريقية تنهار. تقول الناشطة البيئية “بياتريس غوريس”: “نحن نأكل سمكًا جميلاً، لكنه مشبع بالمعاناة. لا أحد يخبرنا بأن الأطفال الذين كان يمكن أن يتغذوا عليه أصبحوا جوعى بسببه”. وفي ظل غياب الشفافية، يبقى المستهلك ضحية التضليل، ويدعم دون أن يدري اقتصادًا غير أخلاقي.
ماذا بعد؟ مطالب بتغيير السلوك والسياسات
يطالب نشطاء ومنظمات حقوقية بفرض قواعد صارمة على استيراد الأسماك المستزرعة، تشمل الكشف عن مصدر تغذيتها، وحظر استيراد المنتجات التي تعتمد على موارد غذائية من دول تعاني من انعدام الأمن الغذائي. كما يُدعى الاتحاد الأوروبي إلى وضع لوائح تمنع استغلال مسحوق السمك القادم من مناطق فقيرة. ويأمل السكان المحليون في السنغال أن يُنظر إليهم ليس فقط كمورّدين خام، بل كأشخاص لهم الحق في الغذاء وسبل العيش الكريم. المعركة لم تعد فقط بيئية أو اقتصادية، بل أخلاقية بامتياز.