الاقتصاد

مفارقه الهدوء: لماذا تبقي الأسواق المالية مستقرة رغم العواصف الجيوسياسيه ؟

الأسواق المالية: الهدوء رغم العواصف الجيوسياسية

في الوقت الذي تزداد فيه التوترات الجيوسياسية، ويُتوقع للأسواق أن تهتز أمام أزمات الرسوم الجمركية، وتقلبات أسعار الفائدة، ونذر الحروب، فإن مؤشرات المخاطر في الأسواق المالية الأمريكية تُظهر عكس ذلك تمامًا. في عام 2025، وبينما تعج العناوين الإعلامية بالمخاوف والتحذيرات، تبدو الأسواق وكأنها تسير على خطى ثابتة بلا قلق. فهل تتجاهل الأسواق المخاطر؟ أم أنها باتت تعمل ضمن نظام اقتصادي مهيأ لامتصاص الصدمات بشكل غير مسبوق؟

مؤشرات الخوف تتراجع رغم الضوضاء

البيانات المشتقة من عقود الخيارات المالية تكشف عن انخفاض توقعات التقلب منذ عامين، بينما انخفضت تكلفة التأمين على السندات عبر مقايضات التخلف عن السداد إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات. كذلك، فإن العوائد الإضافية المطلوبة من المستثمرين لشراء السندات الجديدة تقترب من مستويات ما قبل الجائحة. هذه المؤشرات جميعها توحي بأن الأسواق لا تتوقع زلازل اقتصادية وشيكة.

اقتصاد أمريكي أكثر مقاومة للصدمات

الولايات المتحدة أصبحت، دون ضجيج، واحدة من أكثر الاقتصادات مقاومة للصدمات في العالم. هذه المرونة تدعم أسواق الأسهم، وتتيح للمستثمرين فرصة نادرة لتحقيق عوائد جذابة من السندات عالية الجودة. ويُعزى جزء كبير من هذه الصلابة إلى التحول البنيوي في الاقتصاد الأميركي: قطاع الخدمات يشكل الآن 81% من الناتج المحلي، مقارنة بـ38% فقط في أربعينيات القرن الماضي.

المستهلك الأمريكي أكثر توازنًا من أي وقت مضى

الديون الأسرية قياسًا بالثروة الصافية انخفضت إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، وتبلغ حاليًا نصف ما كانت عليه عام 2008. تكلفة خدمة الدين باتت أقل من 10% من الدخل، والمعدلات الحالية للفائدة على الرهون العقارية لا تزال منخفضة نسبيًا. كل ذلك يعني أن الأسر الأميركية أقل عرضة للصدمات المالية المفاجئة، وأكثر قدرة على الحفاظ على استهلاك مستقر.

توازن الشركات يكبح التقلبات

القطاع الخاص الأمريكي عزز ميزانياته العمومية خلال العقد الماضي عبر تمديد آجال الديون وزيادة الاحتياطات النقدية. هوامش الأرباح الآن عند 13.8%، وهو رقم يتجاوز أي مستوى ما قبل الجائحة. ومع تراجع مستويات المديونية مقارنة بفترة الأزمة المالية العالمية بأكثر من 30%، لم تعد هناك “نقطة ضعف” تفتح الباب أمام موجات تقشف قسري تؤجج التقلب.

تدفق السيولة يعيد تشكيل سلوك السوق

الأسر الأميركية تمتلك أصولًا مالية بقيمة 129 تريليون دولار، ونصفها تقريبًا في أدوات تدر عوائد تفوق 4%. هذا «الجوع للعائد» يخلق طلبًا مستمرًا على الأصول ذات الدخل الثابت، مما يقلل من تقلب الأسعار ويضيق هوامش التداول. ببساطة، أصبحت السيولة نفسها أداة استقرار للسوق، وليست مصدر خطر.

العوائد مرتفعة والمخاطر تحت السيطرة

رغم أن الفروقات في العوائد ضيقة، فإن العوائد الاسمية نفسها لا تزال مرتفعة. عوائد سندات الخزانة تتجاوز 4%، والتضخم تراجع إلى ما فوق 2% بقليل، ما يعني أن العوائد الحقيقية هي الأعلى منذ 15 عامًا. يمكن لمحفظة من السندات المصنفة بدرجة A أن تحقق عوائد بين 6 و7%، بتقلبات سعرية لا تتجاوز 3% فقط، وهي نسبة مغرية للغاية مقارنة بالمخاطر.

التكنولوجيا تفتح آفاقًا جديدة للأسهم

بينما تبدو تقييمات أسهم الشركات التكنولوجية مرتفعة، فإن التدفقات النقدية المتحققة فاقت التوقعات. التقدم في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والروبوتات يُعيد رسم مشهد الإنتاجية، ما يُبقي الطلب على الأسهم مرتفعًا. في المقابل، فإن شُحّ الطروحات الأولية وارتفاع حجم السيولة في الصناديق يُسهمان في بقاء السوق متماسكة.

الاستراتيجية المقترحة: توازن وانفتاح مدروس

في ظل هذا المناخ، يُوصي الكاتب بمواصلة التعرض للأسهم للاستفادة من النمو المتين في الأرباح، مع ترجيح الكفة في السندات لصالح الأدوات ذات الجودة العالية. ويمكن تنويع المحافظ المالية من خلال الاستثمار في الأصول غير المرتبطة مباشرة بالأسواق التقليدية، كالعقارات والاستثمارات الخاصة والعملات الرقمية بنسب محسوبة. وبهذه الطريقة، يمكن لمحفظة مدروسة أن تحقق عائدات عالية من خانة الرقم الفردي، دون الحاجة إلى ملاحقة السندات منخفضة التصنيف.

الأسواق لا تتجاهل المخاطر – بل تستوعبها

الهدوء في الأسواق ليس نابعًا من التجاهل أو السذاجة، بل من بنية اقتصادية جديدة باتت أكثر قدرة على امتصاص الصدمات. الاقتصاد القائم على الخدمات، والميزانيات القوية للأسر والشركات، والوفرة الهائلة في السيولة الاستثمارية، جميعها تشكل درعًا وقائيًا يسمح للأسواق بالبقاء متماسكة رغم صخب السياسة والاقتصاد العالمي.

اقرا ايضا

هجوم مسلح على محكمه في إيران يكشف هشاشة الأمن في جنوب شرق البلاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى