الوكالات

جزيرة الغرباء: كيف تفشل بريطانيا في جمع شتات مجتمعها الحقيقي؟

في زحام النقاشات المحتدمة حول الهجرة في بريطانيا، وبعد التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء كير ستارمر التي أثارت موجة من الانتقادات، ظلت هناك جملة واحدة تمر دون تمحيص: “عندما يأتي الناس إلى بلدنا، يجب أن يلتزموا بالاندماج”.
جملة تكررت كثيرًا، حتى صارت شعارًا تلقائيًا في الخطاب السياسي البريطاني، لا يعترض عليه أحد تقريبًا. ففكرة الاندماج – نظريًا – تبدو حميدة: أن يلتقي المختلفون، يتواصلوا، يتعاونوا، فيغني بعضهم بعضًا ويصنعوا وطنًا مشتركًا أكثر انسجامًا.

لكن هذا التصور، رغم بريقه، يخفي وراءه مفارقة قاسية: في واقع الأمر، أقل فئات المجتمع البريطاني اندماجًا ليست المهاجرين، بل هي النخبة.

الانعزال البريطاني… تقليد قديم

لبريطانيا تقليد طويل في بناء الجدران غير المرئية بين مكوناتها. الانقسامات الطبقية، واللهجات، وأنماط اللباس، ومستويات التعليم، وحتى العادات الترفيهية، كانت دائمًا أدوات لتمييز الناس عن بعضهم البعض. منذ عهد تاتشر، اتسعت هذه الفجوات لتشمل الفوارق في الدخل، والخدمات، وفرص التعليم، والعدالة الجغرافية بين شمال البلاد وجنوبها.

ورغم كل الشعارات، يعيش الكثير من البريطانيين اليوم في جيوب اجتماعية شبه مغلقة. تقرير نشر حديثًا كشف أن 44% من السكان يشعرون في بعض الأحيان بأنهم غرباء وسط مجتمعاتهم. إنها ليست أزمة مهاجرين، بل أزمة عزلة عامة.

الطبقة الثرية… جزيرة داخل الجزيرة

انظر إلى سلوك الطبقة الثرية في بريطانيا: يعيشون خلف بوابات إلكترونية، يتلقون تعليمهم وعلاجهم في مؤسسات خاصة، ويتجنبون دفع الضرائب التي تموّل الخدمات العامة لبقية السكان. في المدن، يعتلون الأبراج السكنية الفاخرة، وفي الأرياف ينسحبون إلى مجتمعات نخبوية لا يدخلها إلا من يشبههم.

لا أحد يطلب منهم الاندماج. لا أحد يلومهم على هذا الانفصال. الخطاب كله موجّه في اتجاه واحد: نحو المهاجرين.

لكن ماذا يعني أن تكون مهاجرًا؟

الهجرة في حد ذاتها فعل اندماج. أن تترك موطنك وتبدأ حياة جديدة في بلد غريب، يعني أنك تقبل – بدرجات متفاوتة – أن تشارك الآخرين في الطقس، والطعام، والبنية التحتية، والقوانين، واللغة، وسوق العمل، والثقافة. حتى المهاجرون الذين لا يتقنون الإنجليزية، يعيشون تفاصيل الحياة اليومية المشتركة، ويتفاعلون معها.

أغلب المهاجرين في بريطانيا لا يعيشون في جزر معزولة. يدخلون المدارس العامة، يستخدمون المواصلات ذاتها، يتسوقون من نفس المتاجر، وغالبًا ما يعملون في وظائف تخدم المجتمع بأكمله.

كير ستارمر نفسه، رجل نشأ وعاش في مدن متعددة الثقافات، لا بد أنه يعرف هذه الحقيقة. لكنه، كسائر السياسيين، اختار أن يعزف على نغمة “اندماج المهاجرين”، متجاهلًا أن الشرخ الحقيقي موجود في مكان آخر تمامًا.

هل حقًا يخاف البريطانيون من الآخر؟

رغم الخطاب العدائي أحيانًا، إلا أن استطلاعات الرأي الحكومية تظهر صورة أكثر تفاؤلًا. “81% من البريطانيين يرون أن مجتمعاتهم المحلية تشهد تعايشًا جيدًا بين مختلف الخلفيات”، هكذا يقول أحدث تقرير حكومي. هذه النسبة لم تقل عن 80% منذ عام 2013.

هذه ليست مؤشرات لمجتمع مفكك، بل لمجتمع أكثر تصالحًا مع تنوعه مما تروّج له بعض وسائل الإعلام.

درس من حانة برتغالية في الريف الإنجليزي

في ظهيرة صيفية حارة العام الماضي، وبينما كنت أبحث عن كوب شاي في بلدة كينغز لين ذات الغالبية المحافظة، دخلتُ مقهى صغيرًا قرب محطة الحافلات. بدا المكان كئيبًا من الخارج، لكن الداخل حمل مفاجأة: حانة برتغالية صغيرة، تزينها أوشحة كروية، يجلس فيها مهاجرون مسنون يحتسون مشروبًا تقليديًا ويتحدثون بلغتهم الأم.

كان المكان يحمل نكهة غريبة، لكنه في الوقت نفسه بدا مألوفًا. هل كان هؤلاء “مندمجين” تمامًا؟ لا أعلم. لكنهم قدموا شايًا ممتازًا، واستقبلوا الغريب بود. أليس هذا جوهر الاندماج الحقيقي؟

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى