الوكالات

هل تستطيع الأمم المتحدة استعادة دورها في عالم يتغير بسرعة؟

تقترب الأمم المتحدة من بلوغ عامها الثمانين وسط أجواء عالمية معقدة لا تشبه بأي حال اللحظة التي تأسست فيها عام 1945. فقد كان الهدف حينها بناء مؤسسة قادرة على منع الحروب الكبرى، لكن الواقع الحالي يكشف عن تحديات غير مسبوقة تهدد جدواها. فالحروب لا تزال تشتعل من أوكرانيا إلى غزة، بينما تتفاقم الأزمات في أفريقيا والسودان. في مواجهة هذا المشهد، تبدو المنظمة عاجزة عن لعب دور حاسم كما أراده مؤسسوها. وهذا يطرح تساؤلات جادة حول قدرتها على الاستمرار كفاعل رئيسي في النظام الدولي.

الأمم المتحدة تدخل عامها الثمانين مثقلة بتحديات غير مسبوقة تهدد دورها كحارس للسلام

شلل مجلس الأمن

 

في قلب الأزمة تكمن حالة الشلل التي أصابت مجلس الأمن. فقد استخدمت روسيا والصين حق النقض مرارًا لعرقلة أي قرارات بشأن الحرب في أوكرانيا، بينما لجأت الولايات المتحدة إلى السلاح نفسه لحماية إسرائيل في غزة. هذا الانقسام بين القوى الكبرى جعل المجلس عاجزًا عن أداء وظيفته الأساسية المتمثلة في حفظ السلم والأمن الدوليين. ومع استمرار الحرب والتوترات، يتضح أن المجلس لم يعد منصة للتوافق الدولي بقدر ما أصبح انعكاسًا لصراعات القوى. وبدون إصلاح حقيقي لآلياته، يظل شلل المجلس أكبر تهديد لمصداقية الأمم المتحدة.

مجلس الأمن بات ساحة صراعات كبرى، وغياب إصلاحه يهدد مصداقية الأمم المتحدة

قيادة محدودة التأثير

 

يحاول الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش إعادة بعض الزخم للأمم المتحدة، لكن الواقع شديد التعقيد يقيّد جهوده. تصريحاته الحادة ضد العمليات الإسرائيلية في غزة حظيت باهتمام واسع، غير أنها لم تغير شيئًا على الأرض. هذا التباين بين المواقف والتأثير يعكس حدود سلطاته وصعوبة فرض قرارات ملزمة. بالمقارنة، كان أسلافه مثل داغ همرشولد أكثر قدرة على التأثير رغم محدودية الأدوات المتاحة لهم. اليوم، تتقلص مساحة المناورة أمام القيادة الأممية مع تغوّل مصالح القوى الكبرى، ما يجعل حضورها الإعلامي أقوى من قدرتها العملية.


تواصل الحروب والأزمات تكشف عجز الأمم المتحدة عن أداء دورها كفاعل رئيسي عالمي

الولايات المتحدة.. الممول الناقد

 

رغم أن واشنطن تظل الممول الأكبر للأمم المتحدة، فإن علاقتها بالمنظمة تمر بمرحلة حساسة تهدد مستقبلها. فقد قدم مشرعون جمهوريون أكثر من 20 مقترحًا للانسحاب أو تقليص التمويل، معتبرين أن المنظمة منحازة ضد إسرائيل ومقيدة لحرية القرار الأميركي. أما الرئيس السابق والحالي دونالد ترامب، فينظر إليها كمنصة بيروقراطية لا تخدم مصالح بلاده. هذا التوجه الأميركي يضع الأمم المتحدة في مأزق مزدوج: فهي تعتمد على تمويل واشنطن، لكنها في الوقت ذاته تواجه رفضًا لأي استقلالية عن الإرادة الأميركية. ما يجعل مصيرها مرتبطًا بمزاج السياسة الأميركية.

 

الجنوب العالمي يبحث عن بدائل

 

في المقابل، تعلو أصوات قوى صاعدة مثل الهند والبرازيل ونيجيريا تدعو إلى إعادة النظر في هيكل النظام الدولي. هذه الدول لم تعد ترى الأمم المتحدة منصة فعالة تعكس مصالحها، بل مؤسسة أسيرة للهيمنة الغربية أو رهينة لفيتو القوى الكبرى. هذا التحول يفتح الباب أمام صعود تكتلات بديلة قد تُهمش المنظمة الأممية تدريجيًا. ومع تزايد وزن هذه القوى اقتصاديًا ودبلوماسيًا، تبدو مطالبتها بإصلاح حقيقي أكثر إلحاحًا. غير أن غياب استجابة جدية من القوى الكبرى قد يدفع الجنوب العالمي إلى بناء نظام موازٍ يضعف الأمم المتحدة أكثر.

 

إصلاحات على الورق

 

طرح غوتيريش مبادرة “UN80” لإعادة هيكلة المنظمة، تضمنت خفض الميزانيات بنسبة 20% وتبسيط الأدوار وإعادة توزيع الموارد. لكن كثيرين يرون أن هذه الإجراءات لا تمس جوهر الأزمة، بل تقتصر على حلول شكلية لا تعالج المعضلة الأساسية: غياب الإرادة السياسية لدى القوى الكبرى لتمكين الأمم المتحدة من لعب دور مستقل وفاعل. فالإصلاح لا يقاس بعدد البنود أو نسب التقليص، بل بمدى استعداد الدول الكبرى لتسليم المنظمة مساحة للتحرك بحرية. ومن دون ذلك، ستظل المبادرات مجرد شعارات لا تغير موقع الأمم المتحدة في النظام العالمي.

أنطونيو غوتيريش يسعى لإصلاح الأمم المتحدة، لكن جهوده تصطدم بفيتو القوى الكبرى

أزمة مالية عميقة

 

الأزمة المالية تزيد من صعوبة المشهد. فالمتأخرات المتراكمة من أميركا والصين، إلى جانب خفض المساعدات من دول عدة، أجبرت الأمم المتحدة على تقليص برامجها وتسريح موظفين. وفي وقت تتصاعد فيه النزاعات الإنسانية وتزداد أعداد المحتاجين للدعم، تبدو المنظمة غير قادرة على الاستجابة بفاعلية. هذا العجز المالي يهدد دورها الإنساني ويضعف ثقة المجتمعات الدولية بها. فبدلًا من أن تكون طوق نجاة لملايين، صارت تكافح لتأمين ميزانيتها التشغيلية. ومع استمرار الأزمة، يلوح خطر فقدانها أهم رصيد تملكه: القدرة على التدخل في الكوارث بسرعة وفعالية.

 

من يخلف غوتيريش؟

 

الأنظار موجهة نحو اختيار الأمين العام القادم، إذ يرى البعض أن الأمم المتحدة تحتاج شخصية أكثر جرأة وديناميكية قادرة على إعادة الاعتبار لها. آخرون يخشون أن ترفض القوى الكبرى أي مرشح مستقل قد يهدد مصالحها. ومع دخول المنظمة مرحلة حاسمة، يتوقف مستقبلها على مدى قدرة الأمين العام المقبل على التوازن بين مصالح متعارضة. فإذا جاء الاختيار ضعيفًا، ستواصل المنظمة مسارها الحالي نحو التهميش. أما إذا كان قويًا ومقبولًا دوليًا، فقد يمنحها فرصة جديدة لتثبت أنها لا تزال مؤسسة تستحق البقاء.

 

مفترق طرق

 

المشهد العام يوحي بأن الأمم المتحدة تقف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما إصلاح عميق يعيد لها الشرعية والثقة المفقودة، أو تدهور تدريجي يحولها إلى نسخة أخرى من عصبة الأمم التي انتهت بالعجز قبل الحرب العالمية الثانية. والحقيقة أن مصير المنظمة لا يتحدد بقراراتها الداخلية فقط، بل بمدى استعداد الدول الكبرى، خصوصًا الولايات المتحدة، لمنحها مساحة للتحرك المستقل. إن لم يحدث ذلك، قد تحتفل الأمم المتحدة بذكراها الثمانين وهي في طريقها للتحول إلى رمز تاريخي بلا تأثير حقيقي في السياسة العالمية.

اقرأ أيضاً

أفغانستان ترفض إعادة قاعدة باجرام لواشنطن رغم تهديدات ترامب 

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى