عربي وعالمي

خنق الصين: السلاح الاقتصادي الجديد في الحرب التجارية

في خضم الهدنة الهشة بين الولايات المتحدة والصين، والتي تم تمديدها مؤخرًا لمدة 90 يومًا، تتكشف ملامح استراتيجية صينية أكثر حدة وتعقيدًا في إدارة الحرب التجارية. الرئيس شي جين بينغ لم يعد يكتفي بالرد عبر تقليص الواردات أو فرض الرسوم الانتقامية كما في السابق، بل طور منظومة من الأدوات الاقتصادية التي تستهدف قلب سلاسل الإمداد العالمية، وتحديدًا الصناعات الأجنبية التي تعتمد على المدخلات والمواد الأساسية القادمة من الصين. هذا التحول يعكس إدراك بكين لقوة ما تبيعه، لا لما تشتريه، في معادلة النفوذ الاقتصادي.

 

من المستهلك إلى المُنتِج: تحول في الاستراتيجية الصينية

في الماضي، كانت الصين تميل لمعاقبة الدول من خلال إغلاق سوقها الاستهلاكية أمام بضائعها، كما حدث مع النبيذ الأسترالي أو اللحوم الليتوانية. أما اليوم، فقد انتقلت إلى استهداف صناعات العالم عبر التحكم في تدفق المواد الخام والمنتجات الوسيطة الحيوية. المثال الأبرز كان في أبريل 2025 عندما ردت بكين على الرسوم الأمريكية بخفض إمدادات المعادن الأرضية النادرة والمغناطيسات عالية الأداء، ما أثار ذعرًا واسعًا في قطاع السيارات الأمريكي البالغ حجمه 1.5 تريليون دولار، ودفع واشنطن إلى التهدئة. أسلوب مماثل استخدم مع الاتحاد الأوروبي حين تباطأت فجأة شحنات المعادن والتكنولوجيا المتعلقة بالبطاريات.

 

هندسة الاعتماد المتبادل لصالح الصين

خطة شي جين بينغ تعود جذورها إلى عام 2020، حين دعا إلى التخلص من المدخلات الأجنبية في سلاسل التوريد المحلية، مع تكثيف اعتماد العالم على الإنتاج الصيني. هذا التوجه أدى إلى إطلاق نظام تراخيص تصدير يشمل أكثر من 700 منتج حيوي، من الآلات المتقدمة والبطاريات إلى المواد البيولوجية والمعادن النادرة. بالنسبة لبعض هذه السلع، تحتفظ الصين بحصة شبه احتكارية عالميًا، ما يمنحها قدرة على التحكم في الوصول إليها بدقة، بما في ذلك منع بيعها لمستخدمين نهائيين محددين حتى لو تم إنتاجها في دول ثالثة باستخدام مكونات صينية.

 

مكاسب للصناعة المحلية وخسائر للمنافسين

القيود الصينية على الصادرات لا تهدف فقط لإلحاق الضرر بالمنافسين، بل أيضًا لتعزيز تنافسية صناعاتها. فعوضًا عن حظر السلع النهائية كالسيارات الكهربائية أو الطائرات المسيّرة، تركّز بكين على الحد من تدفق المكونات الأساسية لتلك الصناعات، ما يخفض الأسعار محليًا ويمنح المنتجين الصينيين ميزة سعرية وتقنية. في الهند، على سبيل المثال، أدى توقف تراخيص تصدير الآلات المتقدمة وعناصر مثل الديسبروسيوم إلى إبطاء إنتاج أجهزة آيفون وسماعات إيربودز، وأجبر شركات مثل فوكسكون على سحب مئات المهندسين الصينيين.

 

الحدود السياسية والاقتصادية للسلاح الجديد

رغم نجاح الصين في استخدام هذا السلاح الاقتصادي على نحو دفاعي ضد السياسات الأمريكية، إلا أن الإفراط فيه قد يحد من فعاليته. كلما زاد استخدام القيود، زاد دافع الشركات والدول للبحث عن بدائل، مما قد يقلص الهيمنة الصينية على أسواق المواد الحيوية. الفارق بين امتلاك 95% من السوق و85% قد يعني الانتقال من سيطرة كاملة إلى منافسة حقيقية. لهذا، تحرص بعض الجهات الصينية على إدارة هذه الأدوات بمرونة، حيث يتم تسريع أو إبطاء تدفقات الصادرات تبعًا لحالة العلاقات الثنائية، مع إيجاد حلول غير رسمية للشركاء الاستراتيجيين.

 

توازن دقيق بين التهديد والطمأنة

تسعى بكين لإرسال رسالتين متناقضتين في آن واحد: فهي تؤكد لشركائها على موثوقية سلاسل إمدادها، وفي الوقت ذاته تحذرهم من الانصياع للضغوط الأمريكية الرامية إلى فك الارتباط معها اقتصاديًا. تصريحات شي جين بينغ في مارس 2025 بأن “محاولات فصل وتعطيل سلاسل التوريد ستضر الجميع” تعكس هذا التوازن الحذر. لكن الواقع يثبت أن هذه السياسة تحمل مخاطر طويلة الأمد، إذ قد تدفع القوى الاقتصادية الكبرى إلى تسريع بناء بدائل تقلل من اعتمادها على الصين، وهو ما قد يغير ملامح التجارة العالمية خلال العقد المقبل.

إقرأ ايضًا…

واشنطن تشهد نشر قوات فيدرالية واعتقالات واسعة وسط جدل شعبي محتدم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى