سيارات ومحركات

من المقلّد إلى المبتكر: كيف قلبت الصين المعادلة في صناعة السيارات

أوروبا تعلّم الصين صناعة السيارات... والآن تنقلب الأدوار

قبل عشرين عاماً، كانت النماذج الأولية التي تقدمها الشركات الصينية لشركائها الأوروبيين في قطاع السيارات مادة للتندر في أروقة كبرى شركات التصنيع الألمانية. بعض هذه النماذج، كما يروي مسؤول بارز في قطاع البرمجيات لدى إحدى الشركات الألمانية الكبرى، لم تكن أكثر من محاولات تقليد سطحية لإعلانات سيارات ألمانية شهيرة، تفتقر إلى الابتكار أو العمق الهندسي. وفقًا لتقرير فايننشال تايمز

لكن المشهد تغير بالكامل. فاليوم، باتت الشركات الأوروبية تسعى جاهدة لاحتواء تكنولوجيا صينية متقدمة، خصوصاً في مجالات حساسة مثل أنظمة التشغيل، القيادة الذاتية، والبطاريات. ويعترف المهندس نفسه بأن القوائم التي يطلب فريقه تنفيذها باتت تُحاكي نقطةً تلو الأخرى ما تعرضه الشركات الصينية من حلول ذكية.

“لقد دار الزمن دورته الكاملة”، يقول المهندس، رافضاً الكشف عن اسمه، في إشارة إلى التحول العميق الذي جعل من الصين، التي كانت بالأمس تلميذاً تقنياً، مُعلّماً في مستقبل صناعة السيارات.

أوروبا على خطى بكين: استخدام النفوذ التجاري لاكتساب التكنولوجيا

بعد أن فرضت بروكسل تعريفات جمركية وصلت إلى 45% على السيارات الكهربائية الصينية، بدأت أوروبا في اتباع نهج مغاير يقوم على التعاون لا المواجهة. شركات أوروبية كبرى مثل فولكسفاغن ومرسيدس-بنز وبي إم دبليو وستيليانتس بدأت توقّع اتفاقيات شراكة مع نظيراتها الصينية للوصول إلى تقنيات متقدمة في مجالات البطاريات والبرمجيات والقيادة الذاتية.

ويأتي ذلك في ظل خطة أوروبية جديدة تشترط على الشركات الصينية الراغبة في دخول السوق الأوروبية إنشاء شراكات أو ترخيص تقنياتها محلياً. وهو ما يُعتبر انقلاباً لافتاً في موازين القوة الاقتصادية؛ فكما استغلت الصين سابقاً جاذبية سوقها للحصول على التكنولوجيا الغربية، تسعى أوروبا اليوم للقيام بالشيء ذاته.

مصنع شركة نيو، المُصنِّعة للسيارات الكهربائية، في هيفاي، بمقاطعة آنهوي. تُبرم الشركات الأوروبية صفقات متزايدة مع منافسيها الصينيين لمنعهم من التخلف عن الركب في المجالات الأساسية – البرمجيات، والبطاريات، وأنظمة المركبات ذاتية القيادة. © كيفن فراير/صور جيتي

اعتراف صريح بالتراجع الأوروبي

تصف إليزابيتا كورناغو، الباحثة في مركز الإصلاح الأوروبي، التغيير بأنه اعتراف بالفجوة المتزايدة بين القدرات الأوروبية والتقدم التكنولوجي الخارجي. ويؤكد روبرت فالِك، الرئيس التنفيذي لشركة Einride السويدية، أن “أوروبا استهانت بغيرها وأفرطت في تقدير قدراتها الذاتية”.

ويقول ريموند تسانغ من شركة Bain في شنغهاي إن الشركات الغربية فقدت نحو ثلث حصتها السوقية في الصين منذ عام 2020، ولا تملك الآن خياراً سوى التعاون مع صناع التكنولوجيا الصينيين.

شكلت شركة فولكس فاجن مشروعًا مشتركًا مع شركة SAIC المملوكة لشنغهاي في عام 1984 لبناء سيارات سانتانا سيدان للسوق المحلية. © LightRocket عبر Getty Images

مفترق طرق: أوروبا بين التعاون والحمائية

التعاون الأوروبي-الصيني في مجال السيارات لا يخلو من التحديات السياسية والاقتصادية. فالحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ضد الصين وضعت أوروبا في موقف حرج، خاصة مع احتمال تدفق السيارات الصينية إلى السوق الأوروبية كرد فعل على الحمائية الأميركية.

ويقول أحد التنفيذيين إن “أوروبا أطلقت النار على قدمها، ثم اتهمت الصين بحمل السلاح”، في إشارة إلى قرارات مثل حظر سيارات الاحتراق الداخلي وقطع إمدادات الطاقة الروسية الرخيصة بعد حرب أوكرانيا.

أصبحت شركة Einride أول شركة على مستوى العالم تنشر شاحنة ذاتية القيادة بالكامل على طريق عام في عام 2019 © Einride/Reuters

ألمانيا في قلب الانقلاب الصناعي

ألمانيا، التي بنت ثروتها إلى حد كبير على تصدير السيارات إلى الصين، تجد نفسها الآن في موقع المتلقي للتكنولوجيا. فبعد أن كانت فولكسفاغن أول من دخل السوق الصينية في ثمانينيات القرن الماضي، تجد نفسها اليوم تتعلّم من شركات مثل Xpeng التي استثمرت فيها 700 مليون دولار عام 2023.

ومن خلال مشاريع شراكة مع شركات مثل هواوي وتنسنت وLeapmotor، تسعى شركات أوروبية للحصول على الخبرات الصينية في المركبات الذكية.

مقاومة نفسية… وتأخر في الاستيعاب

رغم التقدم الكبير الذي أحرزته الشركات الصينية في مجال المركبات الكهربائية، لا تزال بعض الأوساط في أوروبا متمسكة بفكرة تفوق الغرب التكنولوجي. ويرى كريستوف ويبر، مدير أعمال شركة AutoForm السويسرية في الصين، أن هذا التمسك يعكس “خليطاً من الغرور والسذاجة”، ويعوق القدرة على التكيف مع الواقع الجديد.

أما جون لولر، نائب رئيس شركة فورد، فيؤكد أن تفوق الصين لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة تركيز استراتيجي مبكر على تقنيات السيارات الكهربائية. ويشير إلى أن غياب إرث المحركات التقليدية لدى الصين منحها حرية أكبر في الابتكار، وسرّع من وتيرة تطورها، لتغدو اليوم في طليعة سباق المركبات الذكية

أصبحت شركة Einride أول شركة على مستوى العالم تنشر شاحنة ذاتية القيادة بالكامل على طريق عام في عام 2019 © Einride/Reuters

تأخر استراتيجي أوروبي رغم التحرك المتأخر

ترى منظمات بيئية مثل T&E أن الاستراتيجية الصناعية الأوروبية الجديدة جاءت متأخرة. فبرغم جذب شركات مثل CATL وGotion إلى أوروبا عبر حوافز مالية، لا تزال هناك فجوة في اشتراطات نقل التكنولوجيا، ما قد يجعل أوروبا مجرد “خط تجميع”.

وفي مواجهة فائض الإنتاج الصيني، بدأت شركات مثل BYD وChery الإعلان عن مصانع في المجر وإسبانيا، في حين أقامت Leapmotor شراكة مع Stellantis لتوسيع حضورها الأوروبي.

التحديات الجيوسياسية: بين بكين وواشنطن

تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة يهدد بتمزيق سلاسل الإمداد، ما يضع الشركات الأوروبية أمام خيارات صعبة. فبحسب إليزا هورهاجر من اتحاد الصناعات الألماني، فإن الشركات الألمانية تواجه ضغطاً متزايداً للاختيار بين السوق الأميركية والتعاون مع الصين.

وحتى الشركات الصينية باتت تطالب بضمانات تمنع تسرب تقنياتها إلى الغرب. وقد أدى ذلك إلى تأخير ترخيص مصنع BYD في المكسيك خشية انتقال تقنيات القيادة الذكية إلى السوق الأميركي.

إن الاتحاد الأوروبي يتاجر بالوصول إلى الأسواق مقابل الخبرة في التقنيات الرئيسية، تمامًا كما فعلت بكين ذات يوم

ختام: واقعية أوروبية أمام صعود لا يمكن تجاهله

رغم تعقيدات المشهد الجيوسياسي والمخاوف المتزايدة من الاعتماد المفرط على الصين، يُجمع التنفيذيون في قطاع السيارات على أن التعاون مع بكين لم يعد مجرد خيار استراتيجي، بل ضرورة حتمية. فبينما تبحث الصين عن أسواق جديدة لاستيعاب فائض إنتاجها المتنامي، تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى سد فجوة تكنولوجية تتسع بسرعة في مجالات حيوية مثل البرمجيات، البطاريات، وأنظمة القيادة الذاتية.

ستيفان بورغاس، الرئيس التنفيذي لشركة RHI Magnesita، يلخص هذا الواقع بقوله: “الصناعة في أوروبا تأثرت بشكل أعمق من نظيرتها الأميركية، ولهذا جاء الوعي بالحاجة إلى التعاون مع الصين بشكل أسرع وأكثر واقعية”.

في هذا التوازن الدقيق بين الحاجة والتوجس، يبدو أن مستقبل صناعة السيارات في أوروبا سيتحدد بقدرتها على التعامل مع الصين بشروط جديدة، لا بالتجاهل أو العناد.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي خارجي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. يتمتع بخبرة واسعة في التغطية والتحليل، وعمل في مواقع وصحف محلية ودولية. شغل منصب المدير التنفيذي لعدة منصات إخبارية، منها "أخباري24"، "بترونيوز"، و"الفارمانيوز"، حيث قاد فرق العمل وطور المحتوى بما يواكب التغيرات السريعة في المشهد الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى