فن وثقافة

نسيج بايو: كيف تحوّلت قطعة قماش إلى أكثر وثيقة دموية في تاريخ الحروب؟

عمل فني من العصور الوسطى يكشف قصة خيانة ومعركة غيرت وجه بريطانيا

بعد ما يقرب من ألف عام على حياكته، لا يزال نسيج بايو قادرًا على انتزاع الدهشة من أعين من يشاهده. إنه ليس مجرد عمل فني، بل شهادة حية على العنف والخيانة والبطولة والانهيار. سرد بصري مذهل لمعركة هاستينغز، لكنه أيضًا مرآة لرؤية العصور الوسطى للحرب والإنسان.

 

في خطوة دبلوماسية ثقافية غير مسبوقة بين بريطانيا وفرنسا، من المقرر أن يُعرض نسيج بايو، المحفوظ في نورماندي منذ قرون، في المتحف البريطاني عام 2026. المعرض المرتقب سيصاحبه تبادل رمزي للكنوز الثقافية، مثل شطرنج لويس وكنوز ساتون هو، في تذكير بأن هذا النسيج لم يكن يومًا مجرد قطعة قماش، بل وثيقة تؤرخ لبداية حقبة وتهاوي أخرى.

 

حكاية من الخيوط والدم

 

يمتد النسيج على طول 70 مترًا، مطرزًا بخيوط من الصوف على الكتان، ويروي بدقة مذهلة وقائع معركة هاستينغز عام 1066. لكنه لا يكتفي بسرد عسكري جاف؛ بل يزرع بين خيوطه قصة إنسانية مليئة بالتقلبات: ولاء مكسور، صداقة خائنة، وعنف يتخلله تأمل.

 

“الأنجليز والفرنسيون سقطوا معًا”

 

في لحظة تجسد العبث الحربي، نُقشت عبارة لاتينية: “هنا، سقط الأنجليز والفرنسيون معًا في المعركة”. تحتها، تناثرت الجثث، وظهرت رؤوس مقطوعة وخيول مقلوبة. إنه سرد لا يُخفي قسوته، ولا يجمّل المأساة. إنه ما يمكن تسميته بـ”الوثيقة الأكثر فتكًا في تاريخ الحروب”.

 

عندما تروي النساء الحرب

 

يُعتقد أن النسيج حيك في كانتربري، وربما على يد نساء من طبقة النبلاء الأنغلو-ساكسونية. وتكفي نظرة إلى مشهد امرأة وطفل يفران من منزل يحترق على يد الغزاة النورمان، لندرك أن هذه ليست مجرد قصة ملوك وجيوش، بل كذلك عن النساء والأطفال والخوف والهروب.

 

ليس سلاميًا… لكنه ليس دعائيًا أيضًا

 

رغم أن النسيج يروي القصة من وجهة نظر النورمان، إلا أنه لا يتبنى خطابًا تمجيديًا صرفًا. بل يطرح أسئلة عن الوفاء والخيانة، وعن الثمن البشري للسلطة، وعمّا يحدث حين تُكسر العهود.

 

الخيانة التي غيّرت بريطانيا

 

يبدأ النسيج برجلين يجلسان سويًا في مأدبة: الملك الإنجليزي إدوارد والنبيل هارولد غودوينسون. لكن سرعان ما ينقلب المشهد. يسافر هارولد إلى نورماندي، وهناك، وتحت أعين الجميع، يقسم الولاء لويليام. وعندما يعود ويجلس على عرش إنجلترا، تكون الخيانة قد تمت، والحرب باتت حتمية.

 

من الفايكنغ إلى فرسان أوروبا

 

يكشف النسيج كيف تحوّل النورمان من قبائل فايكنغ إلى قوة فرسان تقود أوروبا الجديدة. أسطولهم، المرسوم بخطوط دقيقة وألوان زاهية، ما زال يحمل ملامح السفن الإسكندنافية. لكنهم في المعركة، فرسان بارعون يمتطون جيادهم بثبات بفضل استخدامهم الحديث لأداة “الرِكَاب” التي غيّرت تكتيكات القتال إلى الأبد.

 

أودو: رجل الدين والمحارب

 

من بين أبرز الشخصيات يظهر الأسقف أودو، شقيق ويليام غير الشقيق، يبارك الجنود قبل المعركة، ثم يظهر في قلبها يقاتل. ليس هناك تناقض في نظر العالم آنذاك، بل وحدة بين السماء والسيف.

 

نهاية مروعة: السهم الذي غيّر كل شيء

 

في ذروة المشهد، يُصاب هارولد بسهم غائر في عينه أو رأسه، ويقف مذهولًا، يمد يده إلى الجرح، وكأنه لا يصدق. إنه موت رمزي، ليس لرجل فقط، بل لمرحلة كاملة من تاريخ إنجلترا. بعدها، تبدأ بلاد الإنجليز عهدًا جديدًا، تكتبه يد المنتصر، وتُطرّزه إبرة الذاكرة.

 

رسالة تتجاوز المعركة

 

لا يعرض النسيج مشاهد ما بعد المعركة – لا القلاع ولا كتاب يوم القيامة – لكنه يلمح إلى كل ذلك. يكفي أن نرى فرسان ويليام يخلعون الدروع عن جثث قتلى الإنجليز لندرك أن هذه الحرب، رغم جماليات تصويرها، كانت عملًا من أعمال الإبادة السياسية والثقافية.

 

المرأة التي حيكت بها المأساة

 

يُنهي الكاتب تأمله بجملة لاذعة: “رجلٌ خرق عهدًا، ورجلٌ آخر انتقم. أما من حكّ هذا كله، فهن نساء، وهن من عرفن أن هذه القصة أكبر من ملوك وأسلحة. إنها قصة خسارة لا تنتهي.”

نسيج بايو

 

 

 

أبرز خمس مشاهد في النسيج

 

القَسم المقدس (23): هارولد يمد ذراعيه ليلمَس الآثار المقدسة معلنًا ولاءه لويليام – لحظة مكثفة كمشهد من مسرحية لشكسبير.

 

الأسطول النورماني (38): السفن المطرزة بألوان زاهية تنقل تأثير الإرث الفايكنغي بوضوح.

 

المرأة التي تسأل “لماذا؟” (47): امرأة وطفل يهربان من منزل يحترق، مشهد صادق لا يبرره شيء.

 

الفرسان بلا أيدي (51): الجنود النورمان يقاتلون برشاقة مدهشة فوق الجياد، بفضل الركاب.

 

سقوط هارولد (57): لحظة الصدمة، حيث يقبض الملك الساقط على السهم في رأسه، بينما يُنهب جسده.

 

اقرأ ايضا

هل أُلقي القبض على معتز مطر في لندن؟ الأنباء تتضارب والسلطات تلتزم الصمت

ياسمين خليل

ياسمين خليل، حاصلة على ليسانس آداب قسم علوم الاتصال والإعلام، تتمتع بخبرة في إدارة المحتوى والتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب مهاراتها في الإعلام والعلاقات العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى