شيخوخة العالم وصمت السياسة: الحقيقة الليبرالية وراء تراجع المواليد
العالم يشيخ، بينما تتراجع نسب المواليد بوتيرة غير مسبوقة

في المجتمعات المتقدمة، أصبح من المألوف أن تجلس إلى طاولة مع أحد مديري الصناديق الاستثمارية، فتجده يحدّثك عن كبار عملائه: دول خليجية، أو صناديق معاشات في مدن متوسطة الحجم، تُعامل كأنها تمثل شركات تكنولوجيا عملاقة. في خلفية هذا المشهد المتكرر، هناك حقيقة ديموغرافية صامتة تفرض نفسها بهدوء مقلق: العالم يشيخ، بينما تتراجع نسب المواليد بوتيرة غير مسبوقة.
ورغم التحذيرات الاقتصادية من هذا الاتجاه، إلا أن ما يقلق أكثر هو الجمود الثقافي المتزايد الذي يرافقه. فالعمل لم يعد متوافرًا بما يكفي لدعم الأجيال المتقدمة في السن، لكن الأخطر أن النمط الثقافي نفسه لم يعد يولّد طاقات جديدة — لا بالمعنى البيولوجي، ولا الرمزي.
أزمة لا تُحل بالدعم المالي فقط
لطالما لجأت الحكومات والمنظمات والمعوقات الدولية إلى تفسير تراجع المواليد بوجود معوقات عملية، كقلة حضانات الأطفال أو كلفة الإنجاب المرتفعة. غير أن هذه الفرضيات تنهار عندما نرى دولًا مثل تشاد أو أفغانستان تسجل معدلات إنجاب تصل إلى 6.1 و4.8 على التوالي، رغم ظروفها الاقتصادية المتردية. فهل السبب وجود دعم سخي لرعاية الأطفال في هذه الدول؟ بالطبع لا.
على النقيض، تسجل دول غنية مثل فنلندا (1.3) وسويسرا ونيوزيلندا أرقامًا أقل بكثير من “معدل الاستبدال السكاني” (2.1 طفل لكل امرأة). إذا كانت الحجة أن “ظروف العالم مرعبة ولا تصلح لتربية طفل”، فلماذا تنجب المجتمعات الأكثر فقرًا أكثر؟ ولماذا تعزف المجتمعات الأكثر أمنًا ورفاهًا عن الإنجاب؟
الرغبة في الأطفال موجودة… ولكن
المشكلة لا تكمن في غياب الرغبة في الأطفال، بل في ترتيب أولويات الحياة. نعم، كثيرون يتمنون إنجاب المزيد، لكنهم لا يريدون ذلك بقدر ما يرغبون في النوم لساعات أطول، أو الاستمتاع بالحياة، أو شراء شقة في المدينة. إن طرح سؤال: “هل ترغب في إنجاب المزيد؟” ليس كافيًا. المهم أن نسأل: “هل ترغب بذلك أكثر من رغبتك في الاستقلال والراحة والاستهلاك؟”
هنا يظهر التناقض: الناس يريدون الأطفال، لكنهم لا يريدون أن يضحوا بأنماط حياتهم الحالية من أجلهم.
السياسة ترفض الاعتراف بالحقيقة
على اليسار، لا توجد مشكلة إلا ولها حل حكومي. لكن ماذا لو كانت المشكلة نابعة من اختيارات شخصية حرة؟ هنا يُسحب البساط من تحت أقدام السياسات الاجتماعية. وعلى اليمين، الأسرة تُعد ركيزة المقاومة أمام طغيان الدولة أو فردانية السوق. فإذا بدأ الأفراد يرفضون تكوين أسر من الأصل، فما الذي يتبقى من هذا التصور المحافظ؟
ولهذا، فإن أطياف السياسة المختلفة تفضل اللجوء إلى تفسيرات خارجية — اقتصادية أو اجتماعية — بدلًا من الاعتراف بأن الناس، ببساطة، لا يريدون الإنجاب.
الانتصار الصامت للفردانية الليبرالية
رغم أن الليبرالية تبدو مهزومة انتخابيًا في العقد الأخير، فإنها حققت انتصارًا كاسحًا في ساحة الحياة اليومية. من أيرلندا إلى كوريا الجنوبية، يُظهر الناس أنه حين تتاح لهم حرية الاختيار في بيئة غنية، فإنهم يختارون الفردانية — حتى ولو بشيء من الألم الداخلي.
كثيرون يريدون أطفالًا، نعم، ولكن ليس أكثر من رغبتهم في حياة حضرية ممتعة، أو في علاقة عاطفية مرنة وممتعة لا تقليدية ومستقرة فقط. وهكذا، تسود مفاهيم الاستهلاك والذاتية والسعادة الفردية — رغم كل ما يُقال عن تفاهتها — كقيم حقيقية مهيمنة.
حتى الحجج الاقتصادية لم تعد تقنع
حتى أقوى حجج الداعين للإنجاب — أن المجتمع يحتاج إلى أطفال لدعم المتقاعدين — هي حجة مادية بامتياز. لا أحد يقول إن الأطفال يجلبون المعنى أو السعادة أو الاستمرار الرمزي للحياة. كل ما يُقال إننا نحتاج إلى مزيد من دافعي الضرائب.
وهكذا، يخسر الليبراليون معارك كثيرة، لكنهم يربحون المعركة الأهم: معركة أنماط الحياة.