الوكالات

فرنسا تلغي مذكرة توقيف بشار الأسد: انتصار الحصانة أم نكسة للعدالة؟

فرنسا تسقط مذكرة توقيف الأسد: حصانة المنصب أم هروب من العدالة؟

في قرار أثار جدلاً واسعًا، ألغت أعلى محكمة في فرنسا مذكرة التوقيف الدولية بحق الرئيس السوري السابق بشار الأسد، والتي كانت صادرة بحقه بتهم التورط في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. القرار استند إلى قاعدة قانونية دولية تمنح رؤساء الدول حصانة شخصية أثناء توليهم المنصب، ما اعتبره البعض تكريسًا لفكرة “النجاة من المحاسبة” طالما أن المتهم كان على رأس السلطة. وبينما يرى الحقوقيون أن القرار يمثل نكسة في مسار العدالة الدولية، تُرك الباب مفتوحًا أمام إمكانية إصدار مذكرة توقيف جديدة، بما أن الأسد لم يعد رئيسًا لسوريا منذ ديسمبر 2024 بعد سقوط نظامه ونفيه إلى روسيا.

 

الحصانة الرئاسية فوق العدالة الجنائية

محكمة النقض الفرنسية، وهي أعلى جهة قضائية في البلاد، أكدت في قرارها أن القانون الدولي لا يتيح محاكمة رؤساء الدول أمام محاكم أجنبية أثناء توليهم المنصب، حتى وإن كانت التهم تتعلق بجرائم فظيعة ضد الإنسانية. ورغم أن الأسد لم يعد رئيسًا، فإن المحكمة أبطلت المذكرة الأصلية على أساس صدورها في وقت تمتّع فيه بالحصانة، لكنها لم تمنع إصدار مذكرة جديدة في المستقبل.

 

سقوط النظام وفتح الباب مجددًا للمحاسبة

منذ نهاية عام 2024، يعيش الأسد في المنفى في روسيا، بعد سيطرة فصائل معارضة مدعومة من تركيا على دمشق ومناطق رئيسية في سوريا. هذا التحول السياسي والدستوري يضعه خارج مظلة الحصانة، ما يعني أن إمكانية محاسبته أمام القضاء الأوروبي لم تعد نظرية فحسب، بل باتت واردة عمليًا. ومع ذلك، فإن تأخر إصدار مذكرة جديدة حتى الآن يطرح تساؤلات حول الإرادة السياسية للمتابعة القضائية.

 

قضية السارين: جرح مفتوح في الذاكرة السورية

المذكرة التي أُلغيت تعود إلى نوفمبر 2023، وصدرَت على خلفية هجومين كيميائيين مروّعين في سوريا. الأول وقع في أغسطس 2013 في الغوطة الشرقية، وأودى بحياة أكثر من 1000 شخص، غالبيتهم من الأطفال، باستخدام غاز السارين المحظور دوليًا. أما الثاني فوقع في أبريل 2018 وأصاب نحو 450 مدنيًا في عدرا ودوما. وقد تم تقديم القضية من قبل منظمات حقوقية وناجين من الهجمات، أبرزهم “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” ومبادرة العدالة في “مؤسسة المجتمع المفتوح”.

 

الجدل بين القضاء والنيابة الفرنسية

ورغم أن محكمة الاستئناف في باريس كانت قد أيدت مذكرة التوقيف في وقت سابق، فإن مكتب مكافحة الإرهاب الفرنسي والنيابة العامة قدما طعنًا جديدًا أمام محكمة النقض، استنادًا إلى مبدأ الحصانة. وفي حين دافعت “مؤسسة المجتمع المفتوح” عن ضرورة استثناء الجرائم الفظيعة من الحصانات التقليدية، أصرّت المحكمة على أن القانون الدولي لا يسمح بمثل هذا الاستثناء حاليًا.

 

مذكرات أخرى لا تزال سارية

القرار القضائي لم يشمل مسؤولين سوريين آخرين، إذ لا تزال ثلاث مذكرات توقيف دولية قائمة، من بينها واحدة ضد ماهر الأسد، شقيق الرئيس السابق، بتهم التورط في نفس الجرائم. ولم تُصدر المحكمة حكمًا بشأن هذه المذكرات، ما يُبقيها سارية، ويشير إلى احتمال استمرار الإجراءات القضائية ضد شخصيات سورية نافذة أخرى.

 

لحظة مفصلية ضاعت

بحسب المستشارة القانونية في “مؤسسة المجتمع المفتوح”، ماريانا بينا، فإن الحكم مثّل “فرصة ضائعة” أمام القضاء الفرنسي للتمييز بين الجرائم العادية والفظائع الكبرى. وأضافت أن الحملة من أجل محاسبة الأسد لن تتوقف، وأن إلغاء المذكرة لا يعني إغلاق الملف، بل يسلّط الضوء على العقبات القانونية التي تواجه العدالة الدولية.

 

التدخلات الغربية.. الوعود والتراجع

الهجوم الكيميائي على الغوطة عام 2013 كاد يدفع الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري ضد الأسد، بعد أن كان الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، قد اعتبر استخدام الكيميائي “خطًا أحمر”. لكن التدخل أُلغي بعد أن وافقت دمشق على تسليم ترسانتها الكيميائية. ومع ذلك، كشفت تقارير لاحقة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية أن النظام السوري واصل استخدام السارين على الجبهات، ما عزز مطالبات الحقوقيين بمحاكمته بتهم جرائم حرب ممنهجة.

اقرأ أيضاً تبرعات تشيكية تُمكّن أوكرانيا من تعزيز مدفعيتها

ما الذي يعنيه القرار الآن؟

بعد أكثر من 600 ألف قتيل في النزاع السوري، بحسب التقديرات، يأتي قرار المحكمة الفرنسية كجرس إنذار حاد حول فعالية النظام القضائي الدولي في التعامل مع من وُصفت جرائمهم بأنها “لا تُغتفر”. وبينما تستمر بعض الدول الأوروبية في الدفع نحو العدالة، يبقى التحدي الأكبر هو في تحييد السياسة عن مسار المحاسبة، وضمان أن لا يُكافأ المتهمون بالجرائم الكبرى بحصانات مكتسبة من مناصبهم.

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى