الوكالات

تحالف الصحة والعدالة: كيف يساهم المحامون في علاج المرضى إلى جانب الأطباء

في السنوات الأخيرة، بدأت ملامح جديدة تتبلور في مشهد الرعاية الصحية، ليس فقط من خلال التقدّم في التكنولوجيا الطبية أو اكتشاف علاجات مبتكرة، بل من خلال تحول نوعي في فهم العلاقة بين الصحة والعدالة الاجتماعية. لم يعد الطبيب وحده كافياً في مواجهة التحديات المعقدة التي تواجه المرضى، خاصة حين تكون أسباب المرض خارج أسوار المستشفى، مدفونة في جدران سكنٍ متعفن أو سياسات اجتماعية قاسية. في هذا السياق، برزت شراكات غير تقليدية بين المستشفيات ومنظمات المساعدة القانونية غير الربحية، تقوم على دمج القانون ضمن منظومة العلاج.

نموذج مستشفى الأطفال في سينسيناتي بالولايات المتحدة

مع جمعية المساعدة القانونية الكبرى يعكس هذا التحول. ففي حالات كثيرة، يصبح التدخل القانوني أكثر فعالية من وصفة طبية، عندما يتعلق الأمر بمعالجة جذور الأمراض التي تتغذى على الفقر، السكن غير الآمن، أو البيروقراطية العقيمة. المحامون هنا لا يدافعون فقط أمام المحاكم، بل يقفون إلى جانب الأطباء، يكتبون رسائل للمالكين المخالفين، يلاحقون البلديات المهملة، ويحمون حقوق المرضى في وجه أنظمة تسحق الإنسان الهش.

هذا التوجه لا يقتصر على معالجة أعراض المرض، بل يتجاوزها لإصلاح البنية التحتية للعدالة الاجتماعية. إنه انقلاب في المفاهيم، حيث لم تعد الصحة قضية طبية فقط، بل مشروعاً مجتمعياً تشارك فيه منظومات متعددة، أولها القانون.

صحة تتجاوز الجدران البيضاء: تحالف المستشفيات والمنظمات القانونية

في تجربة فريدة بمستشفى الأطفال في سينسيناتي، نجحت الإدارة في إدخال خيار “الإحالة القانونية” إلى النظام الإلكتروني الطبي، لتصبح إمكانية استدعاء محامٍ مساوية لاستشارة طبيب قلب أو رئة. هذا التطور، الذي يبدو بسيطاً من الناحية التقنية، حمل آثاراً عميقة على المدى البعيد. حيث تمكن الأطباء من تجاوز العوائق التقليدية التي كانت تمنعهم من علاج الأسباب الحقيقية لأمراض مرضاهم، مثل العفن في الشقق أو غياب التبريد في فصل الصيف.

الفرق القانونية أصبحت ذراعاً تنفيذياً تطارد المالكين غير الممتثلين، وتضغط على البلديات لإجراء الإصلاحات اللازمة. بل وتمضي أبعد من ذلك، عبر مقاضاة المخالفين ومنع الانتقام من المستأجرين الضعفاء. هذه الشراكة كرّست مبدأ أن الصحة تبدأ من السكن والعمل والغذاء، وليس من غرفة الطوارئ.

الطفل المريض والبيت الموبوء: الدواء القانوني حلاً لأزمات مزمنة

واحدة من أبرز الحالات التي سلطت الضوء على أهمية هذا التحالف، هي حالة طفل يتردد مراراً على قسم الطوارئ بسبب نوبات ربو حادة. الأطباء كانوا يقدمون الرعاية الطارئة: جلسات تنفس وأدوية وكشوفات. لكن السبب الجذري للمرض – العفن في منزله – ظل قائماً دون حل.

عندما دخل المحامي على الخط، تغيرت المعادلة. بدأت الإجراءات القانونية لإجبار المالك على إصلاح المشاكل، وتقديم بيئة سكنية صحية. لم تكن هذه الحالة فريدة، بل كانت مرآة لوضع عشرات الأطفال في نفس المبنى. هنا، أصبح العلاج حلاً جماعياً وليس فردياً، وتم التعامل مع السبب بدل الاكتفاء بعلاج النتيجة.

تحول من الإغاثة الفردية إلى الإصلاح الهيكلي

لا تقتصر مساهمات المحامين على معالجة قضايا فردية، بل يمتد دورهم إلى رصد الأنماط المتكررة والضغط من أجل تغيير السياسات العامة. فحين لاحظت الفرق القانونية أن عشرات الأمهات الجدد يغادرن المستشفى دون موارد كافية لتوفير الغذاء، تم التواصل مع الجهات الحكومية لإصلاح آلية صرف المساعدات.

والنتيجة؟ عملية بيروقراطية محسّنة باتت تخدم 150 أسرة شهرياً، بدلاً من انتظار كل حالة على حدة. هذا النوع من التدخل يميّز بين عمل الأخصائي الاجتماعي – الذي يركز على الدعم الفردي – والمحامي الذي يعمل على المستوى الهيكلي لضمان العدالة وتغيير الأنظمة المعطّلة.

العدالة تقي من الأمراض: نتائج ملموسة على الأرض

ليست المسألة مجرد أفكار نظرية أو نوايا حسنة. بل هناك نتائج مثبتة عبر دراسات علمية، مثل تلك التي أجريت في سينسيناتي، والتي أظهرت أن 90% من الإحالات القانونية انتهت بنتائج إيجابية. كما تبين أن الأطفال الذين حصلوا على دعم قانوني انخفضت نسبة دخولهم إلى المستشفيات بنسبة تصل إلى 38%، مقارنةً بأولئك الذين لم يحظوا بهذا النوع من الدعم.

برنامج مشابه في نيويورك أدى إلى انخفاض كبير في دخول الأطفال المصابين بالربو إلى غرف الطوارئ. وفي ولاية بنسلفانيا، وفر أحد البرامج مبلغ 11 دولاراً لكل دولار تم استثماره في الشراكة القانونية الطبية. هذه الأرقام تُظهر أن الحلول ليست فقط فعالة صحياً، بل مجدية اقتصادياً أيضاً.

الصحة لا تكتمل بدون استقرار: من العدالة إلى التعليم والعمل

امتد دور الفرق القانونية ليشمل مجموعة واسعة من القضايا التي تؤثر بشكل غير مباشر على صحة المرضى، من تصحيح السجلات الجنائية، إلى تسوية مشكلات الائتمان، إلى تأمين خدمات التعليم للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.

في ظل نظام صحي معقّد، كثير من المرضى يعجزون عن الوصول إلى حقوقهم بسبب الحواجز القانونية أو الإدارية. وهنا، يصبح المحامي بمثابة جسر بين المريض والنظام، يفتح الأبواب المغلقة ويمنح العائلات فرصة لاستعادة السيطرة على حياتهم. فالحفاظ على الكهرباء والماء، وضمان توفر الرعاية التعليمية، كلها عناصر تؤثر في الصحة العامة، من حيث لا ينتبه كثيرون.

من الهامش إلى المركز: كيف تغيرت عقلية الأطباء

حين بدأ البرنامج القانوني في مستشفى سينسيناتي، واجه مقاومة من بعض الكوادر الطبية التي رأت أن هذه ليست من مهام الطبيب. لكن مع مرور الوقت، ومع توالي النجاحات، تبدّلت النظرة كلياً.

الآن، لم يعد السؤال “لماذا نحتاج إلى محامين؟”، بل أصبح: “كيف يمكن أن نعمل من دونهم؟”. هذا التحول في العقلية يعكس وعياً متزايداً بأن صحة المريض تبدأ من البيئة والسكن والغذاء، وأن الطبيب وحده لا يستطيع مواجهة كل هذه الجبهات بمفرده.

نحو تعميم التجربة: الحاجة إلى شراكات أكثر انتشاراً

رغم نجاح التجارب الحالية، إلا أن عدد الشراكات القانونية-الطبية لا يزال محدوداً نسبياً، خاصة في وجه التحديات المتزايدة. فبحسب “المركز الوطني للشراكات القانونية الطبية”، هناك بضع مئات من هذه التحالفات فقط، موزعة على 37 مستشفى للأطفال في الولايات المتحدة.

مع تعمّق فهم العلاقة بين الظروف الاجتماعية والصحة، بات من الضروري تعميم هذا النموذج، وتحفيز المؤسسات الصحية والحكومات على تبنّيه كجزء لا يتجزأ من منظومة الرعاية الصحية. فالطبيب قد يصف العلاج، لكن المحامي هو من يفتح الطريق أمام التعافي الحقيقي.

اقرأ أيضاً:

وزير الخارجية يبحث مع نظيرته الألمانية سبل تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري

يارا حمادة

يارا حمادة صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى