علوم وتكنولوجيا

رحلة علمية حديثة تكشف تأثيرات التغير المناخي على محيطات القطب الجنوبي

عينات عمرها قرن تقارن بالحاضر وتُظهر هشاشة الكائنات البحرية أمام التحولات المناخية

في لحظة فارقة من الزمن، اجتمع الماضي والمستقبل على طاولة عمل داخل متحف التاريخ الطبيعي بلندن. فهناك، تجلس ثلاث عبوات زجاجية شفافة تحتوي على قنافذ بحر صغيرة، جمعت منذ أكثر من قرن من قاع المحيط الجنوبي، خلال رحلات تاريخية قادها المستكشفون سكوت، شاكليتون وبورشغريفينك. واليوم، يعكف الباحث البريطاني د. هيو كارتر على دراسة هذه الكائنات، ليس فقط لتمجيد بطولات الاستكشاف، بل للكشف عن تحولات خطيرة تطال البيئة البحرية في الجنوب المتجمد.

إعادة تتبع لخطى المستكشفين الأوائل

في يناير الماضي، شرع كارتر في رحلة علمية استمرت ستة أسابيع على متن السفينة البحثية النيوزيلندية “تانغاروا”، بهدف زيارة نفس المواقع التي استكشفتها بعثات الاستكشاف القطبية بين عامي 1898 و1913. وبرعاية “منصة العلوم القطبية” النيوزيلندية، أعاد الفريق رسم خطى سكوت، الذي توفي مع أربعة من رفاقه في واحدة من أكثر قصص الاستكشاف مأساوية.

“رسم خطى سكوت، الذي توفي مع أربعة من رفاقه في واحدة من أكثر قصص الاستكشاف مأساوية.”

فهم آثار تغير المناخ بدلًا من رفع الرايات

الهدف هذه المرة لم يكن الوصول إلى القطب أو رفع الرايات، بل فهم تأثيرات تغير المناخ، خصوصًا ما يُعرف بـ”تحمض المحيطات”، الذي يُعتبر أحد التهديدات الصامتة للحياة البحرية. وبما أن أنتاركتيكا تفتقر إلى بيانات تاريخية دقيقة، فإن مقارنة عينات اليوم بتلك المحفوظة منذ قرن، قد تقدم نافذة نادرة لرصد التغيرات البيئية عبر الزمن.

قنافذ البحر: كائنات هشة ومؤشرات بيئية حساسة

ركزت الدراسة على قنافذ البحر – كائنات هشة تُكوِّن هياكلها من كربونات الكالسيوم – لأنها تمثل مؤشرًا حساسًا على مستويات الحموضة في الماء. ومع امتصاص المحيطات لنحو ربع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، تبدأ المياه في فقدان قلويتها، ما يُضعف قدرة الكائنات البحرية على بناء قواقعها أو هياكلها.

اقرا ايضا:

الأمم المتحدة تدعو لالغاء شرط إسرائيلي يهدد عمل المنظمات الإنسانية في غزة

نتائج مقلقة: تحطم القنافذ الجديدة بمجرد تنظيفها

نتائج الرحلة كانت صادمة. فعلى خلاف القنافذ القديمة التي احتفظت بصلابتها، بدت العينات الحديثة هشة، وبعضها تحطم بمجرد تنظيفه بالماء. يقول كارتر: “إذا كانت البيئة البحرية تفقد قدرتها على دعم الكائنات التي تعتمد على كربونات الكالسيوم، فإن تأثير ذلك قد يكون كارثيًا على النظام البيئي بأكمله”.

ذوبان الجليد يكشف عن فرص علمية جديدة

رغم أن الرحلة العلمية كانت مليئة بالمخاطر، إلا أنها كشفت أيضًا عن مظاهر غير مسبوقة لذوبان الجليد. مواقع لم تكن في المتناول سابقًا أصبحت ممكنة الوصول، في دلالة على تفاقم التغير المناخي. وقد ربط الباحثون ذلك بانخفاض مستويات الجليد البحري عالميًا إلى أدنى حد تم تسجيله، مما يدق ناقوس الخطر حول تأثيرات الاحتباس الحراري القطبي على النظم المناخية العالمية.

مفارقة مذهلة: الجليد يذوب… والحياة البرية تزدهر

وفي مشهد مفعم بالمفارقة، سمح ذوبان الجليد باكتشاف حياة بحرية غنية. فقد رصد الفريق ما يصل إلى 150 حوتًا، بالإضافة إلى “وفرة جنونية” من نجم البحر قرب جزيرة كولمان – حيث تم تسجيل 17 نوعًا مختلفًا في نطاق 100 متر فقط، وهو العدد ذاته الموجود في كامل المياه الساحلية البريطانية.

“رصد الفريق ما يصل إلى 150 حوتًا، بالإضافة إلى “وفرة جنونية” من نجم البحر قرب جزيرة كولمان”.

رسالة مزدوجة: تنوع بيولوجي وأزمة بيئية

رغم التحذيرات البيئية القاتمة، يرى كارتر جانبًا مشرقًا في أن بعض أجزاء المحيط الجنوبي لا تزال تحتفظ بتنوعها الحيوي بعيدًا عن التلوث البشري. “إنه المكان الوحيد الذي لا ترى فيه بلاستيكًا أو آثار صيد جائر”، يقول كارتر. لكن ذلك لا يعني أن الأمور على ما يرام، بل على العكس، إنها لحظة مناسبة لقياس ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.

تحذير علمي: مشاهد من مستقبل لا نريده

يصف البروفيسور كريغ ستيفنز، المشارك في قيادة البعثة، التجربة بأنها “مزيج من الحلاوة والمرارة”، مشيرًا إلى أن غياب الجليد له آثار متسلسلة على المحيطات الإقليمية والكوكب بأسره. وأضاف: “نشاهد لمحات من مستقبل لا نريد له أن يتحقق، ويجب علينا اتخاذ خطوات عاجلة للحد من انبعاثات الغازات المسببة للمناخ”.

بين أمجاد الماضي وقلق المستقبل

تحمل العينات المحفوظة من عهد سكوت وشاكليتون رسالة خفية، لا تتعلق فقط بالمجد والبطولة، بل تحذّر من التحولات الكبرى التي يمر بها كوكبنا. فبين قواقع تتهشم، وجليد يذوب، وأمل في الحفاظ على التنوع، يبرز السؤال المصيري: هل يمكننا التصرف بما يكفي من الشجاعة، كما فعل رواد الاستكشاف، لإنقاذ محيطاتنا قبل فوات الأوان؟

“هل يمكننا التصرف بما يكفي من الشجاعة،لإنقاذ محيطاتنا قبل فوات الأوان؟”.

اقرا ايضا:

فن القلق والدهشة: ستانلي دونوود ورحلة ثلاثين عامًا مع راديوهيد

علياء حسن

علياء حسن صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى