الاقتصاد

الهيمنة المالية تهدد استقلال البنوك المركزية وتغير قواعد اللعبة الاقتصادية

مخاطر الهيمنة المالية تتزايد وتؤثر على استقلالية البنوك المركزية العالمية

البنوك المركزية تخشى التضخم، ولكن ما تخشاه أكثر هو “الهيمنة المالية” (Fiscal Dominance)، وهي الحالة التي تبدأ فيها احتياجات الحكومات المالية في توجيه السياسة النقدية. سواء من خلال تمويل مباشر للعجز أو عبر الحفاظ على أسعار فائدة منخفضة بشكل مصطنع، يتم “تسوية الحسابات” عبر ما يُعرف بـ”ضريبة التضخم”. المصطلح هذا ظهر لأول مرة عام 1981 على يد الاقتصاديين توماس سارجنت ونيل والاس، باعتباره “معضلة غير سارة”، لما له من أثر وجودي على استقلالية البنوك المركزية وقدرتها على كبح جماح التضخم.

المخاطر تتزايد رغم القوانين

رغم أن استقلالية البنوك المركزية مصانة في معظم الدول، إلا أن الهجمات السياسية ضدها تتزايد، خصوصًا في الولايات المتحدة. ومع تدهور الوضع المالي واحتدام المناخ السياسي، تُصبح السياسة النقدية هي “العنصر المرن” الذي يُستخدم لتحقيق التوازن المالي. وهنا تبدأ ملامح ما يُسمى بـ”الشعبوية المالية” (Fiscal Populism) في الظهور.

عصر التراخي المالي: العجز والدين العام في ارتفاع

تشهد دول مجموعة السبع حاليًا عجزًا ماليًا يبلغ متوسطه 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي لم تحقق فوائض مالية تُذكر خلال هذا القرن. نتيجة لذلك، تخطى الدين العام لهذه الدول 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى منذ الحرب العالمية الثانية. ومع التحديات المستقبلية مثل الشيخوخة السكانية، وتغير المناخ، والسياسات المالية التوسعية، من المرجّح أن تسوء الأمور أكثر.

البنوك المركزية لعبت دورًا “مساعدًا” في التراخي المالي

رغم محاولات النفي، فإن البنوك المركزية ساهمت فعليًا في هذا الوضع من خلال برامج التيسير الكمي (QE)، التي تجاوزت في ذروتها 10 تريليونات دولار. هذا النوع من التمويل، وإن لم يُسمَ بذلك، يُعد شكلاً غير مباشر من التمويل النقدي للعجز. في البداية، كان QE مبررًا لاحتواء الركود بعد الأزمة المالية العالمية. لكن في مراحله الأخيرة، خاصة خلال جائحة كورونا، أصبح الهدف الأساسي تهدئة أسواق السندات أكثر من تحفيز التضخم.

الخروج من QE: تكاليف باهظة وضغوط متصاعدة

ومع انسحاب البنوك المركزية من التيسير الكمي، ازدادت الضغوط على الميزانيات العامة وأسواق السندات. في المستقبل، يُتوقع أن تستخدم البنوك المركزية أدوات بديلة مثل اتفاقيات إعادة الشراء (Repos) بدلاً من العودة إلى QE بشكل واسع، خاصة في ظل عودة أسعار الفائدة الحقيقية للارتفاع.

طريق آخر للهيمنة: الضغط لخفض الفائدة

بجانب QE، يظهر شكل آخر من الهيمنة المالية: الضغط السياسي المباشر لخفض أسعار الفائدة. الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انتقد مؤخرًا الفيدرالي الأمريكي، محددًا بدقة المكاسب التي يمكن تحقيقها من خفض نقطة واحدة في الفائدة: 360 مليار دولار سنويًا في تكاليف الدين الحكومي. مثل هذا التصريح يُعتبر خطوة واضحة نحو “هيمنة مالية من الباب الأمامي”، بدلًا من الأساليب غير المباشرة السابقة.

خطر الديون قصيرة الأجل

الخطورة تزداد عندما تكون مدة استحقاق الديون الحكومية قصيرة. في الولايات المتحدة، نحو ثلثي الديون مستحقة في أقل من خمس سنوات، وثلث الإصدارات الجديدة خلال العام الماضي كانت قصيرة الأجل (أقل من عام). هذا النمط يتكرر في العديد من الدول: في كندا، ألمانيا، فرنسا، وحتى المملكة المتحدة، رغم أن لديها معدل استحقاق أطول نسبيًا (14 عامًا)، إلا أن هذا المتوسط آخذ في التراجع.

السياسات المالية قد تتحكم في السياسة النقدية

في ظل هذه الظروف، تُصبح الضغوط السياسية والمالية على البنوك المركزية للحفاظ على أسعار فائدة منخفضة أكبر. وكلما زادت عوائد السندات طويلة الأجل، أصبح الميل لإصدار ديون قصيرة الأجل أقوى، ما يعزز دوامة الاعتماد المالي على السياسة النقدية.

وهذا بالضبط ما يجعل الأسواق الناشئة أكثر عرضة للهيمنة المالية – كما هو الحال في تركيا.

هل الدول المتقدمة محصّنة؟

رغم أن الدول المتقدمة لا تزال تحتفظ بهوامش أمان أكبر بفضل استقلالية البنوك المركزية، فإن ذلك لا يجعلها محصنة. في الأشهر الأخيرة، أدت تهديدات لاستقلالية الفيدرالي الأمريكي إلى ارتفاع عوائد السندات طويلة الأجل فوق 5%، مما دفع بعض السياسيين للتراجع عن انتقاداتهم.

الخلاصة: الشعبوية المالية قادمة

قوى الهيمنة المالية تتزايد، والخطر يكمن في تغليب الشعبوية المالية على الانضباط المالي. وهذا التوجه يعني:

عوائد سندات أعلى

ديون حكومية أقصر أجلاً

ضغوط على البنوك المركزية لخفض أسعار الفائدة

إذا لم تستطع أكبر اقتصاد في العالم وأقوى بنك مركزي مقاومة هذه الاتجاهات، فمن الصعب أن يفعل الآخرون ذلك

اقرا ايضا

خسائر فادحة لشركة ستيلانتيس بسبب الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة 

نيرة احمد

نيرة أحمد صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى