الوكالات

صفقة “باراماونت” تضع ديفيد إليسون في قلب صراع ترامب مع الإعلام الأمريكي

في مشهد أصبح مألوفًا في عهد دونالد ترامب، لم تعد صفقات الاستحواذ الكبرى في الولايات المتحدة مجرد ترتيبات مالية محضة، بل تحوّلت إلى ساحةٍ للصراع على النفوذ السياسي وإعادة تشكيل الخطاب الإعلامي. هذا ما تُظهره صفقة استحواذ ديفيد إليسون، نجل الملياردير لاري إليسون، على مجموعة “باراماونت” مقابل 8 مليارات دولار، والتي حازت الأسبوع الماضي موافقة اللجنة الفيدرالية للاتصالات (FCC).

بحسب صحيفة فايننشال تايمز، فإن هذه الصفقة تُعدّ أحد أبرز الأمثلة على التداخل المتزايد بين السياسة والإعلام، في وقت يسعى فيه ترامب إلى ترسيخ نفوذه على المؤسسات الإعلامية من خلال الضغط غير المباشر والتأثير في التوجهات التحريرية. ومع تصاعد دوره السياسي والإعلامي قبيل الانتخابات، يثير تمدد هذا النفوذ مخاوف جدية بشأن مستقبل حرية الصحافة واستقلال وسائل الإعلام في أمريكا.

صفقة باراماونت لا تُعدّ مجرد انتقال ملكية لشركة إعلامية كبرى، بل تمثّل لحظة فاصلة تكشف كيف يمكن للقوة السياسية أن تعيد رسم خريطة الإعلام الأمريكي، مستخدمة أدوات قانونية وتنظيمية لتطويع الخطاب العام بما يتماشى مع أجندتها.

احتجاجات في نيويورك بعد إلغاء شركة باراماونت لبرنامج “العرض المتأخر مع ستيفن كولبير” على قناة سي بي إس، خارج مسرح إد سوليفان. © ريان مورفي/رويترز

 صفقة مربحة تحولت إلى أزمة سياسية

كان من المفترض أن يمثل استحواذ إليسون على باراماونت تتويجًا لمسيرته في هوليوود، إلا أن الصفقة سرعان ما تحولت إلى أزمة سياسية بعد تدخل إدارة ترامب بشكل مباشر في مسارها. الصفقة تزامنت مع تسوية مالية مثيرة للجدل بين ترامب وCBS التابعة لباراماونت، بلغت قيمتها 16 مليون دولار مقابل إسقاط دعوى قضائية بقيمة 20 مليار دولار رفعها ترامب. وترافق ذلك مع موافقة “سكاي دانس”، شركة إليسون، على إلغاء مبادرات التنوع داخل CBS وتطبيق مراقبة على التحيز السياسي. هذه الشروط أعادت تعريف الصفقة ليس كإنجاز اقتصادي بل كاختبار سياسي لموقف النخب الاقتصادية من إدارة ترامب.

صورة من الحلقة الأخيرة من مسلسل “ساوث بارك” التي تضم دونالد ترامب والشيطان © كوميدي سنترال

 أزمة كولبير: إقالة تفجّر الغضب الشعبي

تفجرت الأزمة بشكل أكبر مع إعلان إلغاء برنامج “ذا ليت شو مع ستيفن كولبير” بعد ثلاثة أيام فقط من وصف المذيع الكوميدي التسوية مع ترامب بـ”رشوة ضخمة”. ورغم أن باراماونت وصفت القرار بأنه تجاري بحت، إلا أن التوقيت فجر موجة غضب شعبية واحتجاجات أمام مسرح إيد سوليفان في نيويورك. تدخل ترامب شخصيًا في الموضوع عبر منصة Truth Social معربًا عن فرحه بالقرار، ما عزز الانطباع بأن الإلغاء كان ذا دوافع سياسية.

مؤسسة صحيفة “فري برس” باري فايس تتحدث إلى السيناتور تيد كروز في برنامجها في يناير/كانون الثاني. © Leigh Vogel/Getty Images لـ Uber وX وThe Free Press

 السخرية من الصفقة تصل إلى “ساوث بارك”

لم تمر الأحداث دون رد إعلامي ساخر، إذ عادت السلسلة الكوميدية “ساوث بارك” بحلقة تناولت قضية CBS بسخرية لاذعة، حيث ظهر فيها ترامب عاريًا يتوسل للشيطان من أجل الجنس. البيت الأبيض ردّ على الحلقة بوصفها بـ”عرض من الدرجة الرابعة لا يمكنه إيقاف النجاحات المتتالية للرئيس”. السجال يوضح كيف انتقلت الصراعات السياسية من ساحات المحاكم إلى شاشات التلفزيون ومنصات الترفيه.

قال شخص مقرب من ديفيد إليسون إنه كان يخطط “لإعادة ثقافة الأداء” إلى شبكة سي بي إس، مستحضرًا “أيام إدوارد آر مورو [يمين] ووالتر كرونكايت [وسط]”، في الصورة مع زميله الصحفي دوغلاس إدواردز، على اليسار، في عام 1960. © أرشيف صور سي بي إس/صور جيتي

 لجنة الاتصالات الفيدرالية: أداة بيد الإدارة؟

تحولت لجنة الاتصالات الفيدرالية، التي كانت هيئة تنظيمية هامشية، إلى أداة سياسية في يد ترامب تحت قيادة المفوض بريندان كار، أحد أكثر المدافعين عن توجهات الرئيس. رفضت المفوضة الديمقراطية آنا غوميز الصفقة ووصفتها بأنها “استسلام جبان للإدارة”، محذّرة من أن الصفقة تمثل تهديدًا لحرية الصحافة في الولايات المتحدة. هذا التحول في وظيفة الهيئة التنظيمية يثير تساؤلات حول استقلالية المؤسسات الأمريكية.

استخدم بريندان كار، على اليسار، مع دونالد ترامب، الوكالة لتعزيز حرب الإدارة ضد وسائل الإعلام التي تعتبرها غير ودية. © براندون بيل/جيتي إيماجز

 التوجهات التحريرية تحت المجهر

تثير تعهدات إليسون بإلغاء برامج التنوع وتعيين مشرف على الحياد السياسي في CBS مخاوف واسعة من التدخل في سياسات التحرير داخل الشبكة. ورغم تأكيده أنه يسعى لإعادة الثقافة المهنية المستندة إلى الأداء، فإن تلك الوعود – وفقًا لخبراء إعلام – قد تفتح الباب لتدخل مباشر في محتوى الأخبار. وجود شخصيات مثل باري وايس، المعروفة بمواقفها المحافظة، ضمن المرشحين للشراكة يعزز هذا القلق.

ما بدأ كدمج بين استوديوهات هوليوود أصبح الآن اختبارًا لمدى خضوع الشركات الأمريكية لإرادة الرئيس

منجز اقتصادي أم هدية سياسية؟

رغم أن الصفقة ستمنح إليسون نفوذًا كبيرًا على واحدة من أكبر شركات الإعلام في العالم، فإن تساؤلات كثيرة تثار حول علاقتها بالسياسة. ترامب نفسه ألمح إلى أن الصفقة تضمنت اتفاقًا جانبياً لدفع 20 مليون دولار في إعلانات أو رسائل عامة، وهو ما نفته باراماونت. لكن الشبهات والشكوك تظل قائمة، خاصة مع اتهامات مؤسسات مثل لجنة حماية الصحفيين ومؤسسة حرية الصحافة التي وصفت التسوية بأنها “سابقة خطيرة قد ترقى إلى مستوى الرشوة”.

احتجاجات في نيويورك بعد إلغاء شركة باراماونت لبرنامج “العرض المتأخر مع ستيفن كولبير” على قناة سي بي إس، خارج مسرح إد سوليفان. © ريان مورفي/رويترز

 إلى أين يتجه المشهد الإعلامي الأمريكي؟

مع قرب إتمام الصفقة في 7 أغسطس، تتزايد التوقعات بأن تكون باراماونت ساحة لتجريب نموذج إعلامي جديد يدعمه البيت الأبيض. الصحفيون في CBS يترقبون مستقبلًا مجهولًا، في حين يرى المحللون أن الصفقة تمثل اختبارًا مبكرًا لكيفية تمرير صفقات إعلامية في عهد ترامب. مستقبل شركات مثل Fox وNews Corp مرهون بمدى استعدادها للامتثال لمعايير جديدة تفرضها الإدارة على المشهد الإعلامي. وفي ظل هذا التحول، يبدو أن معركة ترامب مع الإعلام لم تعد مجرد عبارات انتخابية، بل سياسة فعلية تعيد رسم ملامح السلطة الرابعة في الولايات المتحدة.

إقرأ أيضَا:

هل تنقذ الصين جنوب أفريقيا من دونالد ترامب؟

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى