الاقتصاد

استراتيجية صناعية أوسع من “القطاعات النجمية”

تشهد الاقتصادات الغربية إقبالًا متزايدًا على وضع استراتيجيات صناعية جديدة، مدفوعة بمزيج من تباطؤ النمو الاقتصادي داخليًا والنجاحات البارزة التي حققتها دول آسيوية مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة في هذا المجال. غير أن كثيرًا من هذه الاستراتيجيات يظل أسيرًا لفكرة التركيز على “القطاعات النجمية” — أي تلك التي تبدو الأكثر تنافسية عالميًا والأعلى قدرة على تحقيق عوائد اقتصادية سريعة. ورغم أن هذا النهج قد يبدو منطقيًا في ظل ضغوط مالية عامة، إلا أنه يحمل في طياته قصورًا هيكليًا واضحًا عند النظر إلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي البريطاني.

النمو لا يمكن أن يُبنى على القطاعات النخبوية وحدها

الاستراتيجية الصناعية التي أعلنتها الحكومة البريطانية في يونيو الماضي وضعت ثقلها على ثمانية قطاعات كبرى مثل الصناعات الدوائية، التصنيع المتقدم، الخدمات المالية، والصناعات الإبداعية. هذا التوجه له مزايا في تركيز الجهود على مجالات ذات قدرة على المنافسة العالمية، مع إنشاء مجلس استراتيجي مستقل لتأمين الاستمرارية بعيدًا عن تغير المزاج السياسي. لكن الحقيقة أن الغالبية الساحقة من الوظائف في بريطانيا ليست في هذه القطاعات “النجمية”، بل في الاقتصاد اليومي — الصحة والخدمات العامة، التجزئة والضيافة، البناء والتوزيع. تجاهل هذه القطاعات يهدد بجعل النمو غير شامل، معتمدًا على نظرية “التساقط” من الأعلى إلى الأسفل، وهي نظرية تفتقر إلى الأدلة العملية على فعاليتها.

ثغرة في التصميم: إهمال البنية التحتية للنمو

التركيز من الأعلى إلى الأسفل على القطاعات الكبرى يُقصي أحيانًا عناصر أساسية للنمو من الأسفل إلى الأعلى: المهارات، السكن، النقل، والتمويل. هذه البنية التحتية تشكل بيئة النمو الحقيقية لأي اقتصاد، سواء للقطاعات النجمية أو للاقتصاد اليومي. من دون استثمارات في هذه الركائز، لا يمكن تحقيق نمو مستدام أو مرغوب فيه اجتماعيًا. فالشركات لن تستطيع تنفيذ الخطط الطموحة إذا افتقدت إلى العمالة الماهرة أو البنية التحتية الداعمة، والمواطنون لن يروا ثمار النمو إذا لم يتوافر لهم سكن ميسور أو فرص انتقالية وعملية للتقدم الوظيفي.

بديل أكثر شمولًا: “سياسة صناعية للوظائف الجيدة”

الخبير الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد طرح مقاربة بديلة تركز على الوظائف والمهارات الجيدة كأداة مركزية للاستراتيجية الصناعية. هذه الرؤية تنظر إلى العمل ليس فقط كوسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي، بل أيضًا كغاية اجتماعية بحد ذاتها. فالوظائف الجيدة تقود إلى تحسين الإنتاجية والأجور، كما ترفع من مستويات الرضا والاستقرار الاجتماعي.

تجربة محلية: “سلم الفرص” في شرق ميدلاندز

اللجنة المعنية بالنمو الشامل في مقاطعة شرق ميدلاندز — برئاسة آندي هالدين — طبقت هذا المنهج من خلال أداة تحليلية تُسمى “سلم الفرص”. هذا النموذج يساعد على فهم عناصر منظومة النمو محليًا، وتنسيقها بين مختلف الجهات: منح العمال مسارات عملية للتدرج في الوظائف والمهارات، وتزويد الشركات ببيانات حول احتياجات المواهب المستقبلية، وتوجيه مؤسسات التعليم والتدريب نحو البرامج المطلوبة فعليًا، فضلًا عن توجيه الحكومات للاستثمار في الإسكان والنقل والرعاية الصحية.

من “الاقتصاد الفائق” إلى “الاقتصاد اليومي”

هذه الاستراتيجية البديلة تسعى إلى توليد آثار اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق من خلال ما يمكن وصفه بـ “اقتصاد التساقط التصاعدي” (Trickle-up Economics)، أي تعزيز الإنتاجية والدخل بدءًا من القاعدة العريضة للعمالة في الاقتصاد اليومي، بدلًا من انتظار تساقط المنافع من قمم القطاعات النجمية. وفي الوقت ذاته، فإن تحسين فرص العمال في مختلف المواقع والقطاعات يسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي، ويمنح المواطنين إحساسًا ملموسًا بالتقدم.

الطريق إلى شمولية النمو

التحدي الأساسي أمام الحكومات ليس فقط تحفيز النمو، بل ضمان أن هذا النمو شامل وقابل للاستمرار. غياب مسارات واضحة للتنمية الوظيفية والمهارات يفسر حالة الإحباط الشعبي الواسعة، خاصة لدى الشرائح الأقل تعليمًا في الاقتصاد اليومي. هنا تبرز الحاجة الملحة إلى سياسات صناعية تضع الناس في قلب العملية، لا القطاعات وحدها. فدور الحكومة لا يقتصر على توفير “أرضية آمنة” للمواطنين، بل يمتد لتأمين “سلالم صعود” تتيح لهم التقدم والازدهار.

اقرأ أيضاً:

المغرب يحتضن أول Gigafactory في أفريقيا باستثمار صيني ضخم بقيمة 5.6 مليار دولار

يارا حمادة

يارا حمادة صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى