الأنباء السارّة من كييف: أوكرانيا تدخل مرحلة جديدة من الثقة بالنفس رغم القصف المستمر
أوكرانيا: صمود وثقة في زمن التحديات

رغم استمرار القصف الروسي على كييف، الذي أودى مؤخرًا بحياة أم وطفلها، فإن العاصمة الأوكرانية باتت تنبض بنوع مختلف من الروح. فعند زيارتي الأخيرة قبل عام، كانت حالة الإحباط سائدة؛ المخاوف من تأخر الدعم الغربي كانت جاثمة على صدور
الجميع، والقلق من انهيار الجبهة الأوكرانية كان حقيقيًا. أما اليوم، وعلى الرغم من الاضطرابات الدولية المتزايدة – خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وميله العلني نحو موسكو – فإن الأجواء في كييف باتت أكثر تماسكًا، بل وثقة.
ثقة مستمدة من القدرة الذاتية
هذه الثقة الجديدة لا تنبع من تحقيق نصر عسكري، بل من التحول الذي طرأ على قدرات أوكرانيا الذاتية. فصناعات الطائرات المُسيّرة الأوكرانية أصبحت متقدمة وفعّالة على نحو يُضاهي بعض جيرانها الأوروبيين. كما أن الإنتاج المحلي للمدفعية يتعزز يومًا بعد يوم، في ظل إدراك متزايد لدى الجنود والسياسيين على حد سواء أن النصر لا يُقاس باستعادة كل شبر مفقود، بل بصمود مستدام وردع ذكي.
ورغم استمرار معضلة نقص الأفراد، إلا أن الجيش الأوكراني – خاصة وحداته المحترفة – بات يملك فهمًا عميقًا لفنون الحرب، وهو ما يفتقر إليه كثير من جيوش القارة العجوز.
الولايات المتحدة: شريك ضروري رغم الخذلان
في كييف، لا أحد يُنكر الشعور بالخذلان من إدارة ترامب، لكن في الوقت ذاته، هناك وعي بأن الدعم الأمريكي ما يزال حاسمًا، خصوصًا في مجالات الاستخبارات والدفاع الجوي. ورغم الاستعراض الفجّ للتقارب بين واشنطن وموسكو، فإن القناعة السائدة في أوكرانيا هي أن فلاديمير بوتين يُفرط في التقدير، ويظن أنه قادر على إطالة أمد الحرب لصالحه.
ولذلك، لم يتردد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في الدعوة لمحادثات مباشرة مع بوتين في إسطنبول، واضعًا موسكو في موقف دفاعي دبلوماسي. لكن، وبحسب كثير من التقديرات، فإن الكرملين لا يرغب فعليًا بإنهاء الحرب الآن، بل يسعى إلى كسب الوقت وإرباك الغرب.
احتمالات الدور الأمريكي الجديد
على الأرجح، لن تعود واشنطن لدعم كامل لأوكرانيا، لكن من الممكن أن تتبنى موقفًا أقل عدائية، يسمح بتوريد معدات دفاعية أو تسهيل شرائها. هذا السيناريو – وإن لم يكن مثاليًا – يظل أفضل من موقف أمريكي معرقل. وأوكرانيا، بتعزيز ثقتها واعتمادها على الذات، قادرة على التعامل مع تراجع الانخراط الأمريكي طالما لم يتحول إلى خصومة صريحة.
أوروبا: نحو معمار أمني جديد يتضمن أوكرانيا
في هذا السياق، تبرز أهمية أوروبا. ففي يوم أوروبا الموافق 9 مايو، عقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اجتماعًا في مدينة لفيف، تلاه أول اجتماع مشترك في كييف لزعماء فرنسا، ألمانيا، بولندا، وبريطانيا. هذه التحركات، إضافةً إلى الدعم المتزايد من دول الشمال والبلطيق، تُشكل نواة تحالف جديد يعيد رسم خريطة الأمن الأوروبي.
ما تقوم به أوروبا الآن من دعم لأوكرانيا، عسكريًا ودبلوماسيًا، لا يخدم كييف فقط، بل يُظهر للبيت الأبيض أن استمرار الحرب سببه الرئيسي هو تعنت بوتين لا غير.
ما بعد التسوية؟ أم ما قبلها؟
كثير من النقاشات الأوروبية تركز على ترتيبات ما بعد التسوية، مثل إنشاء “قوة طمأنة” لحماية أوكرانيا المجزأة ترابيًا. ورغم أهمية هذه الخطط، فإن الواقع يفرض أولوية مختلفة: لا توجد مؤشرات على وقف دائم للقتال، وربما توافق روسيا على هدنة مؤقتة، لكنها لن تتخلى عن أهدافها العدوانية قريبًا.
لذلك، يجب على أوروبا أن تُكثّف دعمها العسكري الفوري، وأن تُسهم في تطوير الصناعات الدفاعية الأوكرانية من خلال شراكات صناعية مباشرة، وضمان دمج أوكرانيا تدريجيًا في البنية الدفاعية الأوروبية.
كييف ليست عبئًا.. بل ركيزة دفاعية لأوروبا
الحرب في أوكرانيا أثبتت أن أمن أوروبا يبدأ من كييف. الدعم لأوكرانيا ليس صدقة، بل استثمار في الحماية الذاتية. والانخراط الكامل لأوكرانيا في الخطط والمؤسسات الدفاعية الأوروبية سيعزز مناعة القارة كلها.
ما يُبقي المعنويات مرتفعة في أوكرانيا ليس مجرد الدعم الخارجي، بل الثقة المتزايدة في الذات. وعلى أوروبا أن تشارك هذه الثقة، وتُدرك أن دمج أوكرانيا في مشروعها الأمني والسياسي ليس فقط واجبًا أخلاقيًا، بل مكسبًا استراتيجيًا.