العالم بلا دولار: سيناريو الفوضى النقدية المقبلة
هل يمكن أن نتخيل الاقتصاد العالمي دون وجود الدولار في قلبه؟

هل يمكن أن نتخيل الاقتصاد العالمي دون وجود الدولار في قلبه؟ سؤال كان يُطرح على استحياء في السابق، لكنه بات اليوم مطروحًا على نطاق واسع، في ظل مؤشرات متزايدة على تراجع الثقة في “العملة الخضراء”.
فمنذ أبريل الماضي، بدأ الدولار يتصرف كأنه عملة من اقتصاد ناشئ لا كعملة مرجعية. بات أكثر تقلبًا، وتزايدت التقارير عن مستثمرين دوليين يسعون للخروج من أصوله.
إذا كان الدولار على وشك فقدان مكانته كمرتكز للنظام المالي العالمي، فما الذي سيحل محله؟ وهل سينتقل العالم من “هيمنة نقدية” أمريكية إلى “زعامات نقدية” متنافسة؟ وما الثمن الاقتصادي لهذا التحول؟
نهاية الدولار؟ أم مجرد تحوّل نسبي في النفوذ؟
يرى الاقتصادي كينيث روجوف أن العالم مقبل على نقطة تحوّل هي الأكبر منذ “صدمة نيكسون” التي أنهت قابلية تحويل الدولار إلى ذهب عام 1971. ويرى أن مكانة الدولار لن تختفي، لكنها ستتآكل لصالح اليوان الصيني واليورو، بل وحتى العملات الرقمية والذهب في بعض الأنشطة الاقتصادية.
الأمر ليس جديدًا بالكامل. فالصين تمهّد منذ سنوات لبناء أنظمة بديلة للدفع والتسوية باليوان، بينما تستخدم العملات المشفرة في الاقتصاد الخفي لأغراض بعيدة عن الرقابة.
إذا تراجعت هيمنة الدولار… هل من بديل جاهز؟
المشكلة أن الدولار لا يقتصر دوره على كونه “عملة احتياط”، بل هو:
عملة التسعير الأساسية في التجارة العالمية،
عملة التمويل،
وحدة المقارنة في معظم عمليات تحويل العملات،
عملة التبادل بين البنوك المركزية (خطوط المبادلة).
فإذا فقد الدولار مكانته كمرساة نقدية، ستتأثر كل هذه الأدوار مجتمعة. وستصبح العمليات التجارية العابرة للحدود أكثر تكلفة وأقل استقرارًا.
أقرا أيضا
الفريق أسامة ربيع يشهد توقيع بروتوكول بين هيئة قناة السويس وبنك مصر
تكاليف فقدان “المرجع الآمن”: لا أكثر عالمية، بل أقل
بحسب المؤرخ الاقتصادي باري آيشنغرين، فإن الشركات والبنوك تحتفظ بالدولار لأنه يوفر سيولة وأمانًا منخفض التكلفة للعمليات الدولية. وإذا تراجعت هذه الثقة، فسترتفع تكاليف السيولة والتمويل، مما يعني تراجع التجارة والاستثمار العابر للحدود — أي نهاية لمرحلة من العولمة.
وفي مقال تحذيري آخر، يتخيل الخبير الفرنسي جان-بيير لاندو سيناريو “اختفاء الأصل الآمن”، مؤكدًا أن البديل ليس المزيد من الأمان، بل العكس تمامًا: زيادات في الفائدة، تقلبات، وانعدام مرجعية تسعيرية موحدة. سيضطر المستثمرون إلى الاعتماد على تقييمات فردية بدلًا من معيار مشترك، ما يعمّق الفوضى.
من نظام أحادي إلى “زعامات نقدية”: فوضى أم استقرار؟
في أفضل الأحوال، سننتقل إلى نظام “متعدد الأقطاب”: الدولار، اليورو، اليوان، وربما الذهب والعملات الرقمية. لكن ساندبو يشكك في أن التعدد هذا سيجلب الاستقرار. فإذا كان النظام الأحادي (الدولار) فاز على بقية البدائل سابقًا، فذلك لأنه الأكثر كفاءة وليس محض صدفة.
الباحث كارتك سانكاران يرى العكس: التنوع النقدي قد يكون أكثر توافقًا مع الدورات الاقتصادية الإقليمية، مقارنة بنظام يخضع كله لسياسة الاحتياطي الفيدرالي. لكن هذا يظل نظريًا في غياب بديل قادر على تولي مسؤوليات الدولار كاملة.
ثمن الانسحاب الأمريكي: تراجع العقوبات… وارتفاع الفائدة
يحذّر روجوف من أن تراجع هيمنة الدولار سيُضعف فاعلية العقوبات الأمريكية، وسيرفع أسعار الفائدة على الدولار. وإذا رافق ذلك أزمة ديون أمريكية (تتجلى في تضخم أو قمع مالي)، فالعالم سيواجه عصرًا من الفوضى في أسعار الصرف والفائدة، وربما أزمات مالية متكررة.
انكماش العولمة… وعودة الدولة
في هذا السيناريو، يرجّح أن تعود الحكومات إلى الانغلاق المالي، بتقييد تدفقات رأس المال وتقليل الاعتماد على الاحتياطيات الأجنبية. وقد نشهد ولادة نظام نقدي دولي جديد تُحدّد فيه “العملة العالمية” من خلال قدرتها على الدفع والتداول وليس كـ”مخزن للقيمة”.
هذا يُشبه النظام الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه هذه المرة سيكون رقميًا. سيكون النفوذ النقدي مرتبطًا ببناء شبكات رقمية للعملات المستقرة أو المشفرة، مثل “مناطق العملة الرقمية”، لا بقدرة الدول على إصدار أصول آمنة فقط.
نهاية الدولار ليست نصرًا لأحد… بل فراغًا يخشاه الجميع
قد يبتهج البعض بتراجع الهيمنة المالية الأمريكية، لكن البدائل ليست أكثر عدالة أو استقرارًا. الصين لا ترغب في تحرير رأسمالها بالكامل، واليورو لا يملك مؤسسات مالية موحّدة. والذهب أو العملات الرقمية لا توفر أدوات السياسة النقدية التقليدية.
لذلك، إذا لم يُبادر أحد إلى ملء الفراغ الذي سيتركه الدولار، فقد يدخل العالم في عصر “زعامات نقدية” متصارعة… تشبه حروب أمراء الحرب أكثر مما تشبه نظامًا نقديًا مستقرًا.