الاقتصاد

من الانهيار إلى النمو: قصة تعافي اليونان من أعمق أزماتها

عودة من الحافة: كيف استعادت اليونان عافيتها بعد أزمة كادت تطيح بها من منطقة اليورو

قبل عقد من الزمان، كانت اليونان تترنح على حافة الهاوية، وسط أزمة ديون سيادية غير مسبوقة هددت كيانها الاقتصادي، وكادت تعصف بمكانتها داخل منطقة اليورو. تراجعت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية إلى مستويات خطيرة، وتقلصت ثقة المواطنين بالمؤسسات إلى حدودها الدنيا، بينما كانت العواصم الأوروبية تتحسب لسيناريو خروج أثينا من العملة الموحدة. لكن ما بدا كقصة فشل محتومة تحوّل بمرور الوقت إلى ملحمة تعافٍ نادرة. فبفضل حزمة من الإصلاحات القاسية، والتزام لا هوادة فيه بشروط الإنقاذ، استعادت البلاد تدريجياً مكانتها، وأصبحت نموذجًا للدول التي تسعى إلى النهوض من تحت أنقاض أزماتها. ومع ذلك، لا تزال الأسئلة قائمة حول عمق هذا التحول وإمكان استدامته في ظل التحديات البنيوية والاجتماعية المتواصلة. وفقَا لتقرير فايننشال تايمز

الركود والانهيار الشامل

في مطلع العقد الماضي، انهار الاقتصاد اليوناني بشكل دراماتيكي، بعد أن تبيّن أن الحكومات المتعاقبة بالغت في الإنفاق وزوّرت بيانات العجز المالي لسنوات. كانت النتيجة موجعة: انكماش اقتصادي فاق 25%، وارتفاع البطالة إلى مستويات مروعة خاصة بين الشباب، حيث تجاوزت 60% في بعض الأعوام. في شوارع أثينا وسالونيك، تحوّل آلاف المواطنين إلى مشردين، بينما اختار الآلاف الهجرة بحثاً عن أفق اقتصادي. سادت حالة من الغضب الاجتماعي واليأس، وانهارت الثقة بين الشعب والدولة. لم تعد الأزمة مجرد مسألة حسابات مالية، بل تحولت إلى أزمة هوية وطنية ووجود في الاتحاد الأوروبي.

رسم توضيحي

أزمة اليورو وتفكك الثقة

في ذروة الأزمة عام 2015، وصلت المواجهة بين أثينا وبروكسل إلى نقطة اللاعودة. في استفتاء تاريخي، رفض اليونانيون شروط الإنقاذ الأوروبي، ليقفز المشهد السياسي إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر. تسيبراس، رئيس الحكومة اليسارية، ووزيره فاروفاكيس، اختارا المواجهة المفتوحة مع الترويكا الأوروبية، ملوحين بالخروج من منطقة اليورو كخيار سياسي. المشهد بدا وكأن اليونان على وشك الانفجار المالي والسياسي. ومع ذلك، وفي مشهد درامي، اضطر تسيبراس لاحقًا إلى التوقيع على حزمة إنقاذ أكثر قسوة من تلك التي رفضها الشعب، ما أطلق موجة انقسامات داخلية ومظاهرات صاخبة، لكنه جنّب البلاد الانهيار الكامل.

الإصلاح القسري وبداية التعافي

المرحلة التالية اتسمت بما يشبه «الامتثال القسري». فمع توقيع حزمة الإنقاذ الثالثة، اضطرت الحكومة إلى تنفيذ برنامج إصلاحي شامل امتد من نظام الضرائب إلى تقليص القطاع العام وخصخصة الشركات الكبرى. تم تقليص المعاشات التقاعدية، وتشديد شروط الدعم الاجتماعي، وتغيير قواعد سوق العمل بشكل جذري. ورغم الآلام الاجتماعية الناتجة عن هذه السياسات، بدأت مؤشرات الثقة تعود تدريجياً، خاصة بعد وصول حكومة يمين الوسط بزعامة كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى السلطة عام 2019، حيث اتسم الأداء الاقتصادي بالمزيد من الانضباط والشفافية، مما شجع على تدفق بعض الاستثمارات الخارجية.

رسم توضيحي فايننشال تايمز

الدروس الأوروبية من مأساة يونانية

شكلت أزمة اليونان زلزالاً هز أركان الاتحاد الأوروبي، وكشف عيوبًا جوهرية في بنية العملة الموحدة. دفع ذلك بروكسل إلى إنشاء آليات جديدة لم تكن موجودة من قبل، مثل آلية الاستقرار الأوروبية وتوسيع صلاحيات البنك المركزي الأوروبي في التدخل. كما أجبرت الأزمة المؤسسات الأوروبية على التعامل بشكل أكثر حذرًا مع ديون الدول الأعضاء، والبحث عن أدوات فعالة لمواجهة الأزمات دون الاعتماد فقط على التقشف. اليونان أصبحت بمثابة تحذير ونقطة تحوّل في فلسفة إدارة الأزمات داخل الاتحاد.

مكاسب التعافي: انضباط مالي ونمو مستقر

مع حلول عام 2024، كانت اليونان قد طوت رسميًا صفحة برامج الإنقاذ، وبدأت تكتب فصلاً جديدًا من التعافي الاقتصادي. تمكنت من تحقيق فائض أولي بنسبة 4.8% من الناتج المحلي، وتراجعت نسبة الدين العام لأول مرة منذ عقد. المؤشرات المالية تحسنت بوضوح، كما زادت وتيرة النمو بوتيرة تفوقت على العديد من دول الاتحاد الأوروبي. كذلك بدأت تدفقات الاستثمارات الأجنبية تعود تدريجيًا، مدفوعة بتحسن التصنيف الائتماني وثقة المؤسسات المالية الدولية.

رسم توضيحي فايننشال تايمز

ثمن الأزمة: هجرة، فقر، ودَين اجتماعي

لكن خلف هذه الأرقام الإيجابية، ظلت التكاليف الاجتماعية للأزمة حاضرة بحدة. فاليونان لا تزال تسجل واحدًا من أعلى معدلات الفقر في أوروبا، ويعيش أكثر من 30% من السكان في حالة هشاشة اقتصادية. الهجرة الجماعية، خاصة للكفاءات الشابة، تسببت في فجوة ديمغرافية تهدد مستقبل النمو. ومع أن مؤشرات البطالة تحسنت، إلا أن جودة الوظائف الجديدة ظلت منخفضة. التعليم والرعاية الصحية ما زالا يعانيان من نقص الموارد، ما يعكس وجود «دين اجتماعي» لم يُسدد بعد.

 

أليكسيس تسيبراس، على اليسار، رئيس الوزراء اليوناني آنذاك، يتحدث إلى رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي في عام 2015. كان تسيبراس قد وصل إلى السلطة ووعد بتمزيق اتفاق اليونان مع دائنيها. © جون ثيس/وكالة فرانس برس/صور جيتي

تحوّل محدود في الهيكل الاقتصادي

رغم الإصلاحات، بقيت بنية الاقتصاد اليوناني معتمدة على السياحة والعقارات، وهما قطاعان شديدا التأثر بالصدمات العالمية. لم يحدث التحول العميق المنشود نحو القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية. المحاولات لتحفيز الابتكار كانت محدودة، والإصلاحات الهيكلية في التعليم والقضاء والإدارة لم تكتمل. وبالتالي، بقيت قابلية الاقتصاد للصمود في وجه الأزمات موضع شك، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى عمق التحول الاقتصادي.

اليونان الجديدة: بين الواقع والطموح

من ناحية أخرى، بدأت ملامح نهضة جديدة تظهر، خاصة في القطاع الخاص، حيث استُحدثت مبادرات جديدة في مجالات التكنولوجيا والخدمات المالية. كذلك شجعت الحكومة مشاريع استثمارية ضخمة، مثل إنشاء مراكز بيانات تابعة لمايكروسوفت، لكنها غالباً ما تعثرت بسبب البيروقراطية وضعف البنية التحتية. هذا التباين بين الطموحات الكبيرة والواقع التنفيذي يعكس المسافة التي لا تزال تفصل اليونان عن تحقيق تحول اقتصادي شامل ومستدام.

اشتبك طلاب مع شرطة مكافحة الشغب خلال احتجاج عام ٢٠١٠ ضد إجراءات التقشف في أثينا. كان برنامج الإنقاذ الأول لليونان، الذي تطلّب تخفيضات كبيرة، أكثر استعجالاً منه دقة. © أنجيلوس تزورتزينيس/وكالة الصحافة الفرنسية/صور جيتي

الدروس المستفادة

لا إصلاح دون استمرارية في المحصلة، يرى الخبراء أن نجاح التجربة اليونانية كان جزئيًا ومشروطًا. فالاتحاد الأوروبي لا يزال يفتقر إلى أدوات دائمة لموا

إقرأ ايضًا:

فايننشال تايمز: مراجعة دفاعية مرتقبة تدعو لتوسيع الوجود العسكري البريطاني في القطب الشمالي

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى