الوكالات

تحوّل استراتيجي في وادي السيليكون: عندما تفتح OpenAI أبوابها لمواجهة الصين

OpenAI تكسر جدار الانغلاق: مواجهة مفتوحة مع الصين في سباق الذكاء الاصطناعي

في خطوة وُصفت بأنها “انعطافة تاريخية” في مسار تطوير الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة OpenAI إطلاق أول نموذج مفتوح منذ ظهور ChatGPT، في محاولة واضحة لمجاراة الزخم المتسارع الذي تشهده الشركات الصينية، وعلى رأسها DeepSeek، في سباق التسلح التكنولوجي العالمي. هذه الخطوة تمثل ليس فقط تغييرًا في الاستراتيجية التجارية للشركة الأمريكية، بل تعكس كذلك إعادة تموضع سياسي وقيمي ضمن صراع عالمي أعمق بين المعسكرين الأميركي والصيني حول مستقبل الذكاء الاصطناعي المفتوح.

 

الضغط الصيني يحفّز الانفتاح الأميركي

 

منذ بداية عام 2025، شكّلت الصين تهديدًا فعليًا للتفوق الأميركي في مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك عبر نماذج مفتوحة المصدر عالية الكفاءة، مثل R1 من DeepSeek، التي أثبتت قدرتها على مجاراة منتجات OpenAI المغلقة. نجاح هذه النماذج لم يكن تقنيًا فحسب، بل حمل رسائل رمزية حول قدرة الصين على تصدير نموذجها التكنولوجي إلى العالم، مستندةً إلى رؤية أكثر انفتاحًا وشفافية، على عكس ما عُرف عنها في العقود السابقة.

 

تحت هذا الضغط، خرج الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، سام ألتمان، بتصريح لافت مفاده أن شركته “كانت في الجانب الخطأ من التاريخ” في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي المفتوح، ما دفع نحو تبني استراتيجية جديدة أكثر انفتاحًا ومرونة.

 

من الاشتراكات إلى الشفافية: عودة إلى الفلسفة الأولى؟

 

منذ إطلاق ChatGPT، اعتمدت OpenAI على نماذج مغلقة قائمة على الاشتراك المدفوع، مع سيطرة مركزية صارمة على البيانات والخوارزميات. اليوم، ومع إطلاق نموذجين جديدين تحت اسم “gpt-oss”، تعلن الشركة عن انفتاح جزئي، حيث تتيح للمطورين استخدام هذه النماذج مجانًا وتخصيصها، دون الوصول الكامل إلى الشيفرة المصدرية أو بيانات التدريب، وهو ما يُعرف بنهج “الوزن المفتوح” (Open-weight) مقابل “المصدر المفتوح” الكامل.

 

رغم هذا التقييد، فإن هذه الخطوة تتيح للمطورين حرية أكبر في دمج النماذج ضمن بيئات العمل المختلفة، خاصة تلك المعتمدة على التشغيل الذاتي والتحليل المتسلسل للمهام المعقدة.

 

معركة القيم: الديمقراطية مقابل السلطوية التقنية

 

في بيانه الرسمي، حرص ألتمان على تأطير الخطوة ضمن إطار أيديولوجي قيمي، حين أكد أن هدف OpenAI هو بناء منظومة ذكاء اصطناعي “مبنية على القيم الديمقراطية، ومفتوحة للجميع، ومن أجل صالح البشرية جمعاء”. هذه الصياغة لم تأتِ من فراغ، بل تحمل في طياتها تلميحًا واضحًا للصراع القائم مع الصين، التي تقود تطوير الذكاء الاصطناعي ضمن بيئة سياسية مركزية مغلقة.

 

في هذا السياق، يُنظر إلى قرار OpenAI باعتباره جزءًا من معركة أكبر بين نماذج الحكم والتقنية: هل المستقبل سيكون تقنيًا مفتوحًا، ديمقراطيًا، ومتاحًا؟ أم محكومًا بمنصات ضخمة تدار من خلف الستار بأجندات سياسية وتجارية مغلقة؟

 

الرهانات التقنية والاقتصادية: تفوق أم مخاطرة؟

 

من الناحية التقنية، أشارت OpenAI إلى أن النموذج الأكبر من gpt-oss يعادل أداء نموذجها المغلق o4-mini، بينما يقترب النموذج الأصغر من أداء o3-mini، مع ميزة كبرى هي إمكانية التشغيل على الأجهزة الشخصية بذاكرة أقل، مما يعزز فرص استخدامه على الهواتف المحمولة والحواسيب المحمولة.

 

لكن هذا الانفتاح يحمل في طياته أيضًا قدرًا أكبر من المخاطرة، فالنماذج المفتوحة أو مفتوحة الوزن تتيح للمستخدمين تعديلها وتخصيصها، ما يرفع احتمالية إساءة استخدامها، سواء في إنتاج محتوى مضلل، أو حتى في تصميم أسلحة بيولوجية افتراضية، وهو ما دفع OpenAI إلى تأجيل الإطلاق مرتين بغرض إجراء “اختبارات أمان إضافية”.

 

وقد قامت الشركة بتطوير نسخة هجومية من النموذج لمحاكاة الاستخدام الخبيث، وعرّضتها لاختبارات مكثفة من قبل ثلاث فرق مستقلة من الخبراء الأمنيين. وخلصت النتائج إلى أن هذه النماذج لم تُظهر قدرات عالية على إحداث أضرار، لكنّ التوصيات ركّزت على ضرورة تحسين بروتوكولات الأمان.

 

هل يُغيّر الانفتاح خريطة السباق العالمي؟

 

رغم الخطوة الجريئة من OpenAI، فإن التحدي الأكبر يتمثل في سرعة نمو المنافسين الآسيويين. فإلى جانب DeepSeek، برزت شركات مثل Qwen التابعة لمجموعة Alibaba، وKimi من Moonshot، التي اجتذبت اهتمامًا كبيرًا من مجتمع المطورين العالمي، بفضل شفافية أنظمتها وأداء نماذجها العالي.

 

وفي المقابل، تعرّضت شركة Meta، التي تحاول أيضًا تطوير نماذج مفتوحة الوزن، إلى انتقادات بعد أداء مخيب لآخر أنظمتها، ما عزز شعورًا عامًا بأن الصين بدأت تسحب البساط من تحت وادي السيليكون في ساحة الذكاء الاصطناعي المفتوح.

 

المستقبل بين يدي المستخدمين: من يمتلك التكنولوجيا يمتلك السرد؟

 

في خضم هذا التنافس، يتضح أن مسألة “الانفتاح” لم تعد مسألة تقنية فقط، بل تحوّلت إلى أداة جيوسياسية واقتصادية. فالنموذج المفتوح يعني القدرة على بناء منتجات محلية أكثر استقلالًا، وتمكين مطورين صغار من الدخول إلى الحلبة، وكسر الاحتكار المعرفي والتجاري.

 

ومن هنا، يصبح قرار OpenAI بمنح الوصول المجاني للنموذجين بمثابة محاولة لاستعادة زمام المبادرة، لا فقط في وجه المنافس الصيني، بل أيضًا أمام مجتمع عالمي من المطورين بدأ يميل أكثر نحو النماذج الشفافة والقابلة للتطوير.

اقرأ أيضاً…

روسيا تضرب خطوط الإمداد الأوكرانية في كراسنوأرمييسك: معارك محتدمة وطرق إمداد مقطوعة

 من يتحكم بالذكاء، يتحكم بالمستقبل

 

بين القيم والسياسة، وبين التقنية والأسواق، تدخل OpenAI مرحلة جديدة من المنافسة العالمية، حيث لم يعد النجاح يُقاس فقط بعدد الاشتراكات أو بقوة النموذج، بل بقدرة الشركة على صياغة مستقبل مفتوح وآمن وشفاف للذكاء الاصطناعي. وبينما لا تزال المعركة في بداياتها، فإن الأيام المقبلة ستكشف ما إذا كان انفتاح الغرب المتأخر قادرًا على صدّ الاختراق الصيني المتسارع، أم أن عصر الهيمنة الأميركية على الذكاء الاصطناعي قد بدأ فعلاً بالانحسار.

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى