DeepSeek تُطلق شرارة التحول: كيف تقود الصين سباق الذكاء الاصطناعي من الطموح إلى التطبيق؟
نموذج DeepSeek يضع الصين على خريطة التكنولوجيا العالمية بخطة عملية وشاملة

ستة أشهر فقط كانت كافية لتُحوّل شركة DeepSeek الصينية من كيان تقني غير معروف إلى واحدة من أبرز مفاتيح التحول في مجال الذكاء الاصطناعي عالميًا.
لم يكن إنجازها مجرد تجربة تقنية ناجحة، بل انعكاس مباشر لطموحات الصين المتزايدة في السيطرة على مفاتيح التكنولوجيا الأكثر حساسية في العالم.
ففي حين انشغلت كبرى شركات الغرب، مثل OpenAI وGoogle DeepMind، بتطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة مرتفعة التكلفة، ظهرت DeepSeek بنموذج مفتوح المصدر وبميزانية محدودة.
استطاع أن يفرض نفسه على الساحة العالمية، وأن يغيّر قواعد اللعبة، مؤكدًا أن السباق لا يُحسم بالتعقيد التقني وحده، بل بكفاءة التطبيق وسرعة الانتشار.
ليانغتشو: من أرض الحضارات إلى ساحة الابتكار الذكي
في ضاحية ليانغتشو الواقعة شمال غرب مدينة هانغتشو، تمتزج عراقة التاريخ الصيني مع ديناميكية المستقبل التكنولوجي.
هذه المنطقة، التي طالما تفاخر بها الصينيون باعتبارها مهد حضارة تعود لأكثر من خمسة آلاف عام، تحوّلت اليوم إلى واحة للابتكار، تحتضن عشرات الشركات الناشئة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي.
في هذا السياق، تبرز DeepSeek كنموذج حقيقي على كيفية انتقال الشركات من الظل إلى الريادة.
الشركة التي بدأت بشكل متواضع أصبحت اليوم مُحفّزًا رئيسيًا لثورة تقنية جديدة تركز على توظيف الذكاء الاصطناعي لحل مشكلات عملية في قطاعات متنوعة تشمل التعليم، والصحة، والصناعة، والإدارة، وحتى الحياة اليومية للمواطنين.
من سباق النماذج إلى سباق النتائج
تبدّل الهدف في الصين بشكل واضح؛ لم تعد الأولوية متمثلة في مجاراة عمالقة الغرب في تطوير النماذج فائقة القوة، بل في تطبيق هذه النماذج بشكل عملي وفعّال ومربح. وكما يعبّر أحد المستثمرين: “بمجرد أن يغلي الماء، يتهافت الجميع لبناء محركات بخار” – وهي عبارة تُلخّص فلسفة الانتقال من النظرية إلى الفعل.
اليوم، يُنظر إلى اللحظة التي تتجاوز فيها التقنية “عتبة الفعالية” باعتبارها نقطة الحسم الحقيقية، وتُظهر المؤشرات أن الصين قد وصلت بالفعل إلى هذه العتبة.
من الأمثلة الحية على هذا التحول، شركة Yizhi Intelligence، التي تطور أنظمة ذكاء اصطناعي لخدمة العملاء في متاجر الأثاث والصيدليات، إضافة إلى حلول للبث المباشر الافتراضي لعلامات التجميل، ما يعكس توجهًا واضحًا نحو دمج الذكاء الاصطناعي في الوظائف اليومية.
عقبات قائمة رغم التقدم
لكن، لا يخلو المشهد من التحديات. أبرزها ظاهرة “الهلوسة النصية” التي لا تزال تؤثر على دقة مخرجات النماذج الذكية.
كما تُظهر البيانات الاقتصادية أن التكامل بين الذكاء الاصطناعي والنشاط التجاري لم يحقق بعد العائد المتوقع.
فوفقًا لدراسة صادرة عن شركة Accenture، فإن 46% من الشركات الصينية قامت بالفعل بدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في عملياتها، لكن فقط 9% منها رصدت تحسنًا فعليًا في الإنتاجية أو الأرباح.
دعم حكومي واسع وتحرك استراتيجي
في ظل هذه التطورات، تدخل الدولة الصينية بثقلها في المشهد. يدرك الحزب الشيوعي الصيني أن التفوق في هذا المجال لا يأتي فقط عبر البحوث والمختبرات، بل عبر تعميم الاستخدام ودعم التطبيقات محليًا.
لهذا، يظهر الرئيس شي جين بينغ في مناسبات إعلامية عدة وهو يصافح مبتكري DeepSeek، في رسالة رمزية تؤكد أن المشروع التقني بات جزءًا من الأجندة الوطنية.
ولا تقتصر هذه الرسالة على الصورة فقط، بل تمتد إلى خطوات عملية. ففي واقعة لافتة، حصلت شركة “Rokid” الناشئة في هانغتشو على منحة حكومية بقيمة 3 ملايين يوان (حوالي 420 ألف دولار)، خلال 8 دقائق فقط من تقديم الطلب!
هذا الدعم انعكس في تبني المؤسسات العامة لتقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل فعّال، من المتاحف إلى شركات الطاقة، وخطوط الطوارئ الحكومية، وصولًا إلى المدارس التي بدأت في استخدام النماذج الذكية لتحضير الدروس، وحتى الصناعات التقليدية مثل الخزف والمعادن النادرة، التي تستفيد الآن من أدوات ذكية في تحسين الإنتاج والكفاءة.
القيود الأمريكية لم توقف الزحف الصيني
رغم القيود الأمريكية الصارمة على تصدير رقائق Nvidia المتطورة إلى الصين، والحظر المؤقت على شريحة H20 التي صُممت خصيصًا للسوق الصينية، إلا أن الزحف التقني لم يتوقف.
بل على العكس، كشف مؤتمر الذكاء الاصطناعي الأكبر في الصين، والذي أقيم مؤخرًا في شنغهاي، عن نماذج جديدة انخفضت تكاليف تشغيلها بمعدل عشرة أضعاف.
ووفقًا لمطوري MiniMax، فإن التكاليف مرشحة للانخفاض أكثر خلال الأشهر المقبلة، ما يعني أن الوصول إلى خدمات الذكاء الاصطناعي سيصبح أكثر سهولة وانتشارًا من أي وقت مضى، ليس فقط في المدن الكبرى، بل في الأقاليم والمجتمعات الأصغر.
خطر الفقاعات وأسئلة السلامة
رغم الزخم الكبير، يحذر البعض من خطر تحول هذا التوسع إلى فقاعة تقنية، خاصة في مجالات مثل “الروبوتات الشبيهة بالبشر” التي تحظى بدعم حكومي واسع رغم افتقارها إلى تطبيقات تجارية واضحة حتى الآن.
وفي قطاع الصحة، تزايدت المخاوف بعد أن كشف باحثون من جامعة تسينغهوا عن اعتماد أكثر من 300 مستشفى صيني على نماذج DeepSeek في عمليات التشخيص، دون وجود مراجعة دقيقة أو رقابة صارمة على النتائج.
هذا القلق انعكس حتى في تصريحات الرئيس الصيني نفسه، الذي بدأ يلمّح إلى أن بعض الحكومات المحلية تبالغ في الاندفاع، قائلًا: “هل ينبغي على جميع المقاطعات أن تطوّر الذكاء الاصطناعي والمركبات الكهربائية؟ بالطبع لا.”
من اختراق تقني إلى تحول وطني شامل
الواقع أن ما يحدث في الصين اليوم يتجاوز مجرد التنافس على الريادة التقنية. إنه تحول اقتصادي واجتماعي تقوده الدولة بخطة استراتيجية متكاملة.
شركة DeepSeek لم تكن إلا الشرارة الأولى. واليوم، يقف الذكاء الاصطناعي على أبواب أن يصبح مكونًا رئيسيًا في حياة الصينيين، وورقة قوية في الصراع الجيوتقني العالمي.
والسؤال الحقيقي لم يعد:
“هل تستطيع الصين منافسة الولايات المتحدة؟”
بل أصبح:
“هل سينجح النموذج الصيني، الذي يدمج بين الدولة، والسوق، والابتكار المحلي، في صياغة مستقبل التكنولوجيا عالميًا؟”
الوقت وحده كفيل بالإجابة.