هل مهدت النخبة السياسية الطريق لترامب وفاراج؟

أعاد صعود شخصيات مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة ونيغل فاراج في بريطانيا الجدل حول جذور الظاهرة الشعبوية، وما إذا كانت مجرد انعكاس لمخاوف عابرة أم أنها ثمرة فراغ سياسي تركته النخبة التقليدية في قضايا تمسّ حياة الناس اليومية. هذا السؤال يقود إلى بحث الفجوة بين تطلعات الناخبين وسلوك النخب الحاكمة، خصوصاً في ملفات الهوية والهجرة والأمن. فحين يتأخر السياسيون في تقديم إجابات عملية لمشكلات واقعية، يجد الخطاب الشعبوي فرصته الذهبية ليملأ هذا الفراغ بوعود عاطفية وبسيطة.
الفجوة التمثيلية وأبعادها
الفجوة التمثيلية تعني وجود شرائح واسعة من الناخبين لا تجد نفسها ممثّلة داخل الأحزاب التقليدية. ورغم أن التوافق النسبي بين الجمهور والنخبة قائم في الشؤون الاقتصادية، إلا أن التباين يبرز بشدّة في قضايا مثل الهجرة والاندماج والأمن المحلي. هذا الانفصال يفتح المجال أمام قوى تقدم خطاباً مباشراً وجاذباً من الناحية العاطفية، يُشعر الناخبين بأنه يضع أولوياتهم في المقدمة. من هنا، يتحول العجز عن الاستجابة الفعالة إلى بيئة خصبة للتيارات الشعبوية، التي تقدم نفسها كصوت بديل ومختلف.
لماذا ينجح الخطاب الشعبوي؟
الخطاب الشعبوي يلقى رواجاً حين يشعر الناخبون بأن قضاياهم المرتبطة بالهوية أو النظام الاجتماعي أو الاندماج مهمّشة من قبل السياسيين. وبفضل بساطته ووعوده السريعة، يقدم نفسه كحل مباشر لمشاكل معقدة. المفارقة أن هذه القوى لا تحتاج إلى أغلبية كبيرة لتحقيق المكاسب، بل يكفي أن تقتطع شريحة مهمّشة من الناخبين لتصبح رقماً صعباً في المشهد السياسي. بذلك، يتحول الإحباط إلى وقود انتخابي يُمكّن الشعبويين من فرض أجندتهم على طاولة الحوار الوطني.
دروس من التجارب الدولية
تُظهر التجارب الأوروبية، من الدنمارك إلى دول أخرى، أن استجابة الأحزاب التقليدية ببرامج عملية يمكن أن تقلص من صعود الشعبويين. فعندما تُترجم المخاوف الشعبية إلى سياسات ملموسة وفعالة، يتراجع الدعم للحركات الراديكالية لأن الناخبين يشعرون أن مطالبهم تجد طريقها إلى التنفيذ. في المقابل، الاكتفاء بخطاب سياسي فضفاض أو وعود غير قابلة للتحقق يفاقم الشعور بعدم التمثيل، ويفتح الباب لمزيد من الإقبال على اليمين المتطرف.
ما وراء الفجوة: فهم القلق الشعبي
ليس القلق الشعبي رفضاً للهجرة أو الانفتاح بحد ذاته، بل رفض للتدفقات غير المنظّمة وفشل الاندماج في بعض المجتمعات. كما أن الخوف من الجريمة يعكس تراجع الإحساس بالنظام العام أكثر من كونه موقفاً معادياً للمهاجرين. التفرقة بين هذه الأبعاد ضرورية لفهم الواقع ووضع السياسات الصحيحة، إذ إن تصوير المخاوف الشعبية على أنها تعصّب أعمى لا يساعد في معالجتها، بل قد يزيد الانقسام ويقوّي الخطاب الشعبوي.
مخاطر الانزلاق نحو الحلول السهلة
اللجوء إلى سياسات متشددة فقط من أجل كسب أصوات الناخبين قد ينجح مؤقتاً، لكنه يحمل في طياته مخاطر بعيدة المدى. فالمبالغة في التشدد قد تزيد الانقسامات المجتمعية وتفقد الأحزاب ثقة مجموعات أخرى من الناخبين. التحدي الحقيقي هو إيجاد توازن بين الطمأنة الأمنية وتطبيق القوانين من جهة، وبين دعم برامج الاندماج من جهة أخرى. أي اختلال في هذا التوازن قد يفاقم الأزمات بدلاً من حلّها.
كيف يمكن سد الفجوة؟
على الأحزاب التقليدية أن تتحول من مرحلة الاعتراف بالمشكلات إلى صياغة سياسات قابلة للتطبيق والقياس. يشمل ذلك تعزيز ضبط الهجرة غير النظامية، إطلاق برامج لغوية واقتصادية للاندماج، وتبني إجراءات واضحة لمواجهة الجريمة الصغرى. الأهم هو أن تكون هناك آليات تواصل شفافة لشرح الأهداف والنتائج والفترات الزمنية. أما الاكتفاء بالخطابات دون أفعال فسيبقي الفجوة التمثيلية مفتوحة، ويترك الساحة فارغة أمام الشعبويين.
صعود ترامب وفاراج لم يكن مصادفة، بل نتيجة فراغات تركتها النخب التقليدية في ملفات تمس حياة الناس. سد هذه الفجوات لا يتحقق بالشعارات، بل بسياسات واقعية تبني الثقة وتعيد للناخبين شعورهم بأن صوتهم مسموع.