ستارمر بين قيود وستمنستر وصعود فاراج: أزمة السياسة البريطانية في القرن الحادي والعشرين

بينما يستعد البرلمان البريطاني لموسم سياسي جديد بعد العطلة الصيفية، يعود النقاش مجددًا حول ما إذا كان مركز السلطة الفعلي لا يزال في وستمنستر أم أنه انتقل إلى فضاءات أخرى أكثر تأثيرًا. فالمباني العريقة في SW1 ما زالت تنتج القوانين والقرارات، لكنها تبدو كآلة ضعيفة النبض؛ وزراء عاجزون عن السيطرة على تفاصيل محلية مثل جمع القمامة، بينما يُحاسَبون على قضايا عالمية مثل الحروب في الشرق الأوسط أو تقلبات الأسواق المالية. رئيس الوزراء كير ستارمر يواجه وضعًا معقدًا: أدوات الحكم بين يديه تبدو بلا فاعلية، والقرارات تتسرب من بين أصابعه لصالح قوة موازية تتجسد في نايجل فاراج، زعيم حزب “الإصلاح”، الذي نجح في توظيف فضاءات الإعلام الرقمي والسياسة غير الرسمية لبناء نفوذ يكاد يوازي نفوذ رئيس الحكومة نفسه.
المفارقة أن ستارمر، وهو ملزم بتقديم حلول عملية قابلة للتنفيذ، يجد نفسه محاصرًا ببنية حكومية مركزية ثقيلة، فيما يتحرك فاراج بحرية في فضاء إعلامي عابر للحدود، يصوغ الأجندة العامة دون أن يتحمل مسؤولية تنفيذها. هذا المشهد يكشف ليس فقط عن أزمة قيادة، بل عن تحوّل عميق في بنية السياسة البريطانية حيث تآكلت سلطة وستمنستر لصالح شبكات رقمية وعابرة للحدود.
وستمنستر: سلطة رمزية وآليات مشلولة
رغم أن البرلمان ومقر رئاسة الوزراء يظلان رموزًا للحكم البريطاني، فإن القوة الفعلية أصبحت أقل وضوحًا. الوزراء يبدون كموظفين مثقلين بالمسؤولية أكثر من كونهم صانعي قرار، إذ يحمّلهم الرأي العام مسؤولية كل أزمة محلية أو عالمية دون أن يمتلكوا أدوات حقيقية للسيطرة. حتى وزيرة المالية رايتشل ريفز لا تستطيع مواجهة رياح الأسواق العالمية التي قد تعصف بخططها بين ليلة وضحاها. هذا العجز البنيوي يجعل وستمنستر أشبه بآلة صاخبة لكنها غير قادرة على إنتاج حلول ملموسة، الأمر الذي يضعف ثقة المواطنين في جدوى العملية السياسية التقليدية.
ستارمر بين الواقع والخيبة الشعبية
منذ وصوله إلى داونينغ ستريت، واجه كير ستارمر انتقادات لافتقاره إلى رؤية واضحة. صحيح أنه أجرى تعديلات وزارية وأعاد هيكلة فريقه الاستشاري، لكن ذلك بدا أقرب إلى محاولات تقنية لإصلاح آلة معطلة. ستارمر يقدّم نفسه كرجل عملي يحل المشكلات تدريجيًا، إلا أن بطء النتائج في ظل تسارع دوامة الأخبار الرقمية جعل صورته باهتة. بالنسبة لكثير من النواب والمواطنين، المشكلة ليست في النظام الإداري وحده، بل في غياب بوصلة سياسية تحدد أولويات واضحة للحكومة الجديدة.
سياسة التصريحات لا السياسات
إحدى نتائج ضعف السيطرة المركزية هي انجراف الحكومة نحو إطلاق إعلانات مثيرة إعلاميًا – خصوصًا حول ملف الهجرة – دون أن تحقق نتائج ملموسة. هذه “السياسة عبر التصريحات” تجعل الحكومة أسيرة ردود الفعل الإعلامية، حيث يفرض الغضب الشعبي والضغط الصحفي إيقاع العمل الحكومي. النتيجة: سياسات قصيرة الأجل ذات مردود محدود، بينما تتراجع القضايا الاستراتيجية الكبرى التي تحتاج إلى صبر وإدارة طويلة المدى.
فاراج: المعارض الذي يتجاوز قواعد اللعبة
في المقابل، نايجل فاراج لا يتقيد بأي من هذه القيود. بصفته زعيمًا لحزب صغير وعضوًا غائبًا عن البرلمان، يستطيع أن يحدد أجندة سياسية عبر الإعلام ومنصات التواصل دون أن يُحاسَب على تنفيذ أي خطة. رحلته الأخيرة إلى واشنطن مثال صارخ: بدلاً من العودة إلى البرلمان، اختار انتقاد بريطانيا في الخارج والتودد للجمهوريين وشركات التكنولوجيا. هذه الاستراتيجية تمنحه قوة ناعمة تتجاوز حدود بريطانيا وتؤطره كصوت متمرد على “النظام الفاشل” في لندن.
اللعب بالنار: خطاب الكراهية كأداة نفوذ
فاراج استغل أحداث العنف ضد اللاجئين ليطرح نفسه كمدافع عن “حرية التعبير”، حتى حين تعلق الأمر بتحريض مباشر على العنف كما فعلت لوسي كونولي. بتبنيه هذه القضايا، يقدم نفسه كزعيم للشعب الغاضب ضد “الدولة القمعية”. ورغم خطورة هذه المقاربة، فإن الإعلام المؤيد له يصورها كنوع من الوطنية، مما يعفيه من أي تكلفة سياسية. هذه القدرة على تحويل التطرف إلى رصيد شعبي تمثل مصدر قوته الأساسية.
السياسة في فضاء غير رسمي
الفضاء السياسي لم يعد يقتصر على قاعات البرلمان أو قنوات الإعلام التقليدي. المنصات الرقمية، شبكات الضغط، والاتصالات الدولية أصبحت ساحات أساسية لصناعة القرار والتأثير. فاراج يدرك ذلك جيدًا، لذلك يراكم نفوذه في “المكان الذي تحدث فيه السياسة الحقيقية” – فضاء غير رسمي، عابر للحدود، متشابك بالمصالح الإعلامية والتجارية. في المقابل، يجد ستارمر نفسه مقيدًا بطقوس وستمنستر وبطء الدولة المركزية.
أزمة الثقة في حزب العمال
داخل حزب العمال، يتزايد القلق بشأن مستقبل الحكومة. البعض يرى أن ستارمر يعاني من “عجز في الرؤية”، بينما يعتقد آخرون أن المشكلة تكمن في بنية الدولة المركزية التي تجهض أي مشروع إصلاحي. لكن الواقع أن مزيجًا من الاثنين هو ما يعمّق الأزمة: قيادة غير ملهمة ونظام إداري عاجز. هذا القلق سيظهر جليًا في مؤتمر الحزب المقبل، حيث تتصاعد التكهنات حول البدائل، حتى وإن لم تكن واقعية بعد.
تآكل السياسة التقليدية وصعود البدائل
المشهد السياسي البريطاني اليوم يكشف عن مفارقة صارخة: بينما تُدار الدولة عبر مؤسسات ثقيلة وبطيئة، تتشكل السياسة الفعلية في فضاءات غير رسمية يقودها أشخاص مثل فاراج. هذا التحول يعكس أزمة أعمق في الديمقراطية الغربية، حيث لم تعد السلطة تُقاس بعدد المقاعد في البرلمان فقط، بل بمدى السيطرة على السردية العامة عبر الإعلام الرقمي. والنتيجة: نظام رسمي يفقد قدرته على الإقناع، وقادة شعبويون يملأون الفراغ بخطاب صاخب لكنه بلا حلول عملية.