الجمركة وحدها لا تبني المصانع: دروس من تجربة بايدن
رسوم بلا رؤية: لماذا تفشل سياسات ترامب الصناعية؟

في خضم التحولات العميقة التي يشهدها العالم خلال السنوات الأخيرة من جائحة كوفيد-19 إلى أزمات سلاسل التوريد، ومن الحروب التجارية إلى تحديات المناخ أصبحت المرونة الصناعية ضرورة استراتيجية وليست مجرد خيار اقتصادي. أثبتت هذه الأزمات أن الاعتماد المفرط على مركز واحد للإنتاج يعرض الدول لمخاطر تعطّل حرج في الوصول إلى السلع الأساسية، الأمر الذي دفع العديد من الحكومات إلى إعادة النظر في خرائط التصنيع وسلاسل التوريد.
في هذا السياق، تبرز الرسوم الجمركية كأداة يمكن استخدامها لحماية الصناعات الوطنية، لكنها تظل غير كافية بمفردها إذا لم تُدعَم بسياسات صناعية متماسكة تعزز من قدرة الاقتصاد على الإنتاج المحلي المستدام. فالتجربة الأميركية خلال إدارة بايدن أوضحت أهمية الجمع بين الحوافز المالية، والتدريب المهني، وتنظيم السوق، والتقييد المدروس على التجارة، من أجل إعادة بناء الصناعات الحيوية كأشباه الموصلات.
لكن في المقابل، تبدو السياسات التجارية الحالية للإدارة الأميركية بقيادة ترامب، كما تشير رنا فروهر في Financial Times، غير متسقة وتعتمد بشكل أساسي على تعريفات عامة دون إطار صناعي داعم، ما يعمّق الغموض الاستثماري ويهدد فرص إحياء التصنيع الأميركي على المدى الطويل.
تجربة بايدن: مزيج متكامل من الحوافز والقيود
خلال إدارة الرئيس جو بايدن، طبّقت الولايات المتحدة سياسة صناعية متكاملة جمعت بين قيود على التجارة والتكنولوجيا ورؤوس الأموال، وحوافز داخلية مثل الإعفاءات الضريبية والمنح والتدريب المهني. وقد ساهم ذلك في إعادة بعض الصناعات الحيوية، مثل صناعة أشباه الموصلات، إلى الأراضي الأميركية. لم تكن تلك الخطوة علاجًا سحريًا لتعويض كل الوظائف التي فُقدت لصالح الصين خلال العقدين الماضيين، لكنها كانت بداية استراتيجية حقيقية.
في المقابل، تنتهج إدارة ترامب الحالية سياسة جمركية مشوشة، تتضمن رسومًا شاملة تطال أجزاء منخفضة وعالية القيمة من الاقتصاد، ومقترحات متغيرة بلا رؤية مستقرة. ورغم الإشارات إلى دعم بعض الصناعات المحلية مثل الشحن والأدوية، فإن غياب التزامات حقيقية بدعم مالي أو تدريبي يجعل تلك السياسات أقرب إلى الوعود منها إلى التنفيذ.
انعدام اليقين يقتل الاستثمار
يقول مايكل ويسل، الخبير في التجارة وعضو سابق في “لجنة مراجعة العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين”:
“الشركات الكبرى تستند إلى مقاييس استثمارية تمتد لخمس سنوات أو أكثر. لا أحد يعلم كم ستستمر الرسوم الجمركية، سواء في عهد هذه الإدارة أو ما يليها.”
غياب سياسة صناعية متكاملة يضعف الثقة في بيئة الاستثمار الأميركي، لا سيما في قطاعات كالصناعة والطاقة، حيث تكون دورة العائد طويلة ومعقدة.
مشكلات هيكلية تتجاوز التعريفات
حتى لو أرادت الإدارة بناء قدرة صناعية حقيقية، فإنها بحاجة إلى معالجة قضايا بنيوية مثل انعكاس الرسوم الجمركية — حين تكون الرسوم على مكونات الإنتاج أعلى من الرسوم على المنتج النهائي، ما يُضر بالمصنّعين المحليين. كذلك، لا تزال شبكة الكهرباء الأميركية تعاني من التقادم ونقص الموارد، وهو ما يتعارض مع خطط إحياء التصنيع، خصوصًا إذا فُرضت رسوم على واردات الطاقة من كندا.
ومن زاوية أخرى، تعتمد الشركات الأميركية على نماذج “الإنتاج حسب الطلب”، ما يجعلها أكثر عرضة لأزمات مفاجئة — كقيود الصين على تصدير المعادن النادرة أو قرارات الحظر من الكونغو الديمقراطية، التي تعد من المصادر القليلة للكوبالت.
غياب الرؤية الشاملة
تتساءل فروهر: “هل يوجد في البيت الأبيض من يملك تصورًا شاملاً للمخاطر الصناعية واللوجستية؟” وتجيب: “لا أظن ذلك.” وتدعو إلى تعيين شخصية خبيرة ربما ذات خلفية عسكرية أو لوجستية — لتكون بمثابة “قيصر المرونة الصناعية” داخل البيت الأبيض، شخص يمكنه التنسيق بين المخاطر الجيوسياسية، والاحتياجات المالية، والقدرات الإنتاجية.
لكن بدلاً من ذلك، يبدو أن الإدارة متمسكة بوصفات كلاسيكية: تخفيض الضرائب وتخفيف اللوائح، وهو ما اعتبرته الكاتبة أقرب إلى تفكير أمنيات منه إلى استراتيجية مرونة.