بعد البريكست: حزب العمال يتبنى مواقف أوروبية أوضح
تغير المزاج الشعبي البريطاني يمنح حزب العمال مساحة لإعادة النظر في علاقته مع أوروبا، مدفوعًا بعوامل شبابية وأمنية وتراجع حدة الخطاب المناهض للاتحاد الأوروبي

بعد مرور ما يقرب من تسع سنوات على استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، بدأ البريطانيون يستفيقون من صدمة القرار. لم يعد سوى 11% فقط من الناخبين يعتقدون أن “بريكست” كان فكرة جيدة. وبينما بدا أن السياسيين المؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي محاصرون بالخوف من إعادة فتح الجرح، فإن مزاجًا عامًا جديدًا بدأ يتشكل، ويمنح حزب العمال مساحة للتحرك نحو مواقف أكثر جرأة بشأن أوروبا.
اتفاق شبابي يعيد الأمل لجيل فقد الأفق
أحد أبرز التحولات تمثل في طرح اتفاق محتمل مع الاتحاد الأوروبي يتيح للشباب من عمر 18 إلى 30 عامًا فرصة العمل أو الدراسة في دول الاتحاد لمدة عام على الأقل. ورغم أن ذلك لا يعني عودة حرية التنقل الكاملة، إلا أنه يمثل بصيص أمل لجيل عانى من الانغلاق خلال جائحة كورونا. فحرمان الشباب من هذه الفرص لم يعد مقبولًا، حتى من منظور أخلاقي أو إنساني.
تحول في نبرة الخطاب السياسي
حتى للكبار فوق سن الثلاثين، فإن مجرد سماع خطاب مختلف – غير متوجس أو رافض تلقائيًا لكل ما هو أوروبي – يعتبر تطورًا مريحًا. وزيرة المالية المرتقبة من حزب العمال، رايتشل ريفز، تحدثت بصراحة عن أن اتفاقًا جيدًا مع أوروبا قد يكون أهم من اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، وهو تصريح نادر يعكس تحوّلًا في الأولويات السياسية البريطانية.
لماذا كان التردد سائداً؟ وما الذي تغيّر الآن؟
وفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة “Good Growth Foundation”، فإن دعم حزب العمال لاتفاقات أوروبية كان محدودًا بسبب الخوف من ردود الفعل العنيفة من الناخبين المؤيدين للخروج، خاصة بعد أن شعر كثيرون منهم بأنهم خُدعوا في حملة “بريكست”. ومع ذلك، فإن نفس هؤلاء الناخبين أصبحوا الآن أكثر إدراكًا للمخاطر الأخرى، مثل تهديدات روسيا وبروز ترامب مجددًا، ما جعل أوروبا تبدو شريكًا أكثر موثوقية.
الأمن لا الاقتصاد: المبرر الأكثر تأثيرًاللتقارب
المثير أن أقوى الحجج لصالح إعادة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي لم تعد اقتصادية بقدر ما هي عاطفية وأمنية. ففكرة التعاون في مجال الدفاع، التي كانت مثيرة للجدل في السابق، أصبحت الآن مقبولة لدى 47% من مؤيدي “بريكست” من ناخبي حزب العمال. بل إن هناك اهتمامًا بإتاحة فرص للمصانع البريطانية للاستفادة من صندوق أوروبي جديد يهدف إلى إعادة تسليح القارة.
شروط مرنة وصفقات قابلة للتفاوض
أظهر التقرير أن الناخبين قابلون لقبول اتفاقات محددة مثل اتفاق التنقل الشبابي، شريطة وضع قيود واضحة على عدد المستفيدين، وعدم منحهم وصولًا مجانيًا للخدمات العامة مثل NHS. أما الاعتراضات على المحكمة الأوروبية، فيبدو أن هناك حلولاً وسطًا يمكن التوصل إليها. الغريب أن أكثر القضايا حساسية بقيت مسألة وصول قوارب الصيد الأوروبية إلى المياه البريطانية، رغم أن القطاع نفسه بات ضئيلًا. ولكن هنا يظهر أن الخوف ليس من السمك، بل من فقدان السيطرة والكرامة الوطنية.
المخاوف من رد فعل الأحزاب اليمينية
رغم هذا التقدم، لا تزال هناك تساؤلات حول مدى صمود حزب العمال أمام الضغط المتوقع من حزب “ريفرم” الشعبوي، خصوصًا إذا حقق الأخير نتائج جيدة في الانتخابات المحلية المقبلة. فهل يتراجع العمال عن جرأتهم؟ أم يدركون أن التردد أيضًا له ثمن سياسي؟
أزمة تسرب الأصوات نحو اليسار المؤيد لأوروبا
تقرير آخر صادر عن “Persuasion UK” كشف أن حزب العمال يفقد ناخبيه بوتيرة أسرع لصالح الأحزاب المؤيدة للاتحاد الأوروبي مثل “الديمقراطيين الليبراليين” و”الخضر”، مقارنة بعدد من ينتقلون لحزب “ريفرم” اليميني. حتى في معاقل “الجدار الأحمر”، أصبح الناخب المتذبذب أكثر ميلاً نحو أحزاب يسارية تدافع بوضوح عن علاقة أوثق مع أوروبا.
خطوات صغيرة، لكنها نحو الاتجاه الصحيح
في نهاية المطاف، لا يمكن اعتبار الاتفاقات الجزئية مثل “فيزا الشباب” أو التصريحات المتزنة حول ترامب بمثابة عودة كاملة إلى أوروبا. لكنها تعكس تغيرًا في الثقافة السياسية البريطانية، وخروجًا من ظل الخوف. بالنسبة للبريطانيين الذين اعتادوا العيش في جزيرة باردة وممطرة، فإن ظهور شمس دافئة على العلاقات الأوروبية قد لا يدوم طويلًا – لكنه بالتأكيد يستحق أن يُحتفى به.