صحف وتقارير

الجواسيس القادمون من موسكو..كيف تحولت البرازيل إلى قاعدة انطلاق سرية لعملاء الكرملين؟

في خضم التداعيات المتواصلة لغزو روسيا لأوكرانيا، بدأت تتكشف شبكة عالمية من الجواسيس الروس الذين عملوا لسنوات في الظل. الجديد والمثير في القصة أن البرازيل ذلك البلد المعروف بتنوعه الثقافي وحياده الدبلوماسي  كانت المحطة الصامتة التي انطلقت منها شخصيات روسية مزيفة نحو مهمات تجسسية في أوروبا والولايات المتحدة.
تحقيق موسع أجرته نيويورك تايمز يكشف كيف تحوّلت البرازيل إلى “مصنع للهوية” لصالح أجهزة الاستخبارات الروسية، في عملية معقدة بدأت من شواهد ولادة مزورة وانتهت إلى فضائح دبلوماسية، واختفاءات غامضة، واتهامات رسمية بالتزوير والتجسس. خلف هذه الأحداث، فريق صغير من العملاء البرازيليين كان يعمل بهدوء شديد لتفكيك شبكة تجسس متكاملة صُممت داخل الكرملين، وزُرعت بدقة على مدى سنوات.

 الدولة التي خدعت العالم

لم تكن البرازيل هدفًا استخباراتيًا بحد ذاتها، بل نقطة انطلاق. مع جواز سفر يُعتبر من الأقوى عالميًا، وسهولة إصدار شهادات الميلاد، والقدرة على التعايش بين جنسيات متعددة دون لفت الانتباه، أصبحت البرازيل البيئة المثالية لتأسيس حياة بديلة. لم تكن المخابرات الروسية تبحث عن جمع معلومات داخل البرازيل، بل عن خلق “مواطنين برازيليين” يمكنهم لاحقًا التوجه إلى لاهاي، أو باريس، أو واشنطن، والاندماج دون إثارة شك. في تسعينيات القرن الماضي، كانت البلاد تعيش فترة من الفوضى الإدارية، وهي الثغرة التي استغلتها موسكو ببراعة. وبالفعل، وُلدت في ملفات السجلات البرازيلية شخصيات لا وجود لها على الأرض — لكنها امتلكت الوثائق الكاملة، من شهادات ميلاد إلى بطاقات اقتراع. هذه هي البذرة التي نمت منها عملية تجسس غير مسبوقة في جرأتها.

ستة من الجواسيس الروس، في اتجاه عقارب الساعة من أعلى اليسار؛ يكاترينا ليونيدوفنا دانيلوفا، وفلاديمير ألكساندروفيتش دانيلوف، وأولغا إيغوريفنا تيوتريفا، وألكسندر أندرييفيتش أوتيكين، وإيرينا ألكسيفنا أنتونوفا، ورومان أوليغوفيتش كوفال.

 البطل المجهول: أرتيوم شميريف

يُعتبر أرتيوم شميريف، أو كما سُجِّل رسميًا باسم غيرهارد دانييل كامبوس ويتش، أحد أبرز النماذج التي توضح مدى تعقيد شبكة الجواسيس الروس في البرازيل. شاب روسي أنشأ حياة متكاملة كـ”رائد أعمال برازيلي”، يتحدث البرتغالية بطلاقة ويُدير شركة 3D Rio للطباعة ثلاثية الأبعاد، على مرمى حجر من القنصلية الأمريكية في ريو دي جانيرو. شميريف لم يكن يتصرف كجاسوس، بل كرجل أعمال طموح. وقّع عقودًا مع جهات رسمية، وكان يعيش مع صديقته البرازيلية وقطة من نوع “مين كون”. كل ذلك لم يمنع من وجود علامات مريبة: عزلة مفرطة، انقطاع دائم للإنترنت عند مغادرته المنزل، وتجنب مطلق للصور. لكن حتى أقرب أصدقائه لم يتصوروا أن الرجل أمامهم كان يعيش حياة مزدوجة كتلك التي تُروى في أفلام الجاسوسية.

لقطة سريعة لمقر الشرطة الفيدرالية البرازيلية في برازيليا. ساهم عملاء الشرطة هناك في كشف شبكة التجسس.

 رسائل الخداع: حياة مزدوجة تحت الضغط

كانت حياة شميريف المزيفة مليئة بالإحباطات. في رسائل مسرّبة إلى زوجته الروسية، الجاسوسة أيضًا، كتب بإنجليزية ضعيفة: “لا أحد يحب أن يشعر بأنه خاسر، لذلك أواصل العمل والأمل.” الزوجة، التي كانت تقيم حينها في اليونان بهوية مزيفة أيضًا، ردّت برسالة قاتمة: “لقد خُدعنا… الحياة التي وُعِدنا بها لم تكن سوى وهم.” هذه الرسائل تُظهر الوجه الإنساني المظلم لتلك المهمات، حيث يعيش الجواسيس في عزلة حقيقية، لا يستطيعون الاعتراف بهويتهم الحقيقية، ولا بناء علاقات صادقة، ويقضون سنوات في الانتظار، دون أن تُطلب منهم أي مهام فعلية. كان شميريف، رغم براعة تمثيله، ينتظر أن تبدأ “المرحلة الحقيقية”، لكنه بقي في الظل حتى اللحظة الأخيرة  حين انكشف كل شيء تقريبًا.

شاطئ إيبانيما في ريو دي جانيرو. لسنوات، استخدمت روسيا البرازيل كنقطة انطلاق لضباط استخباراتها النخبة، المعروفين بالمهاجرين غير الشرعيين.

 بداية السقوط: عملية “إيست”

التحول الكبير بدأ في 2022، بعد أشهر من اجتياح روسيا لأوكرانيا. تلقّت الشرطة الفيدرالية البرازيلية بلاغًا من وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) يُفيد بمحاولة أحد الجواسيس الروس دخول هولندا بجواز سفر برازيلي مزور. اسمه كان “فيكتور مولر فيريرا”، طالب سابق في جامعة جون هوبكنز، والمتقدم للتدريب في المحكمة الجنائية الدولية — التي كانت تفتح تحقيقًا ضد جرائم الحرب الروسية. لكن اسمه الحقيقي كان سيرغي تشيركاسوف. رُفض دخوله، وأُعيد إلى البرازيل، حيث بدأت السلطات المحلية مراقبته بدقة، ثم ألقت القبض عليه لاحقًا بتهمة التزوير. لم تكن هناك أدلة كافية على التجسس، لكن قصة تشيركاسوف كانت المفتاح الذي فتح أمام المحققين الباب نحو شبكة كاملة من الجواسيس الروس، تحمل هويات برازيليّة لا أصل لها.

تظهر صورة من أواخر ثمانينيات القرن العشرين، قدمتها وكالة سجلات ستازي، فلاديمير بوتين، الثاني من اليسار، عندما كان يعمل في دريسدن، بألمانيا الشرقية، ضابطًا في جهاز المخابرات السوفيتية (كي جي بي) من عام 1985 إلى عام 1990.

أشباح السجلات المدنية

اكتشف المحققون نمطًا غريبًا: أشخاص يظهرون فجأة كبالغين بعد غياب تام في سجلات الطفولة. لا مدارس، لا تطعيمات، لا نشاطات طبية أو اجتماعية. هؤلاء “الأشباح”، كما أطلق عليهم المحققون، كانوا جميعًا يملكون شهادات ميلاد موثقة، لكنها مبنية على شهادات زائفة من قُرى نائية، حيث يُمكن إصدار الوثائق اعتمادًا فقط على شهادة شاهدين. فريق التحقيق بدأ بفرز ملايين الوثائق يدويًا، باحثًا عن تشابه في التواريخ والأسماء والتوقيعات. وبعد أشهر من العمل، ظهرت أسماء أخرى مثل “إريك لوبيز”، “ماريا دومينغيز”، و”دانييلا برانكو”. كانت جميعها أسماء مستعارة لجواسيس روس، يعيشون بين السكان منذ سنوات. كل واحد منهم كان يشكل قطعة من لوحة تجسس عملاقة زرعها الكرملين بصمت.

حي بوتافوغو في ريو، حيث كان السيد شميريف يسكن. عندما بدأ المحققون تحقيقاتهم، كان السيد شميريف قد بنى هويةً مُقنعةً لدرجة أن صديقته وزملاءه لم يكونوا على درايةٍ بها.

 الانهيار: هروب في آخر لحظة

أراد المحققون القبض على شميريف متلبسًا، لكن تحركاته كانت أسرع. قبل أيام من المداهمة، غادر إلى ماليزيا بشكل مفاجئ. لم يبدُ عليه التوتر، بل كان يُخطط لعطلة طويلة. بعد اختفائه، فتّشت الشرطة شقته، فعثرت على معدات اتصالات مشفّرة، مبالغ نقدية (حوالي 12 ألف دولار)، ومخططات تُشير إلى محاولات لاختراق بيانات حساسة. بدا كمن كان ينوي العودة لاحقًا — لكن هذا لم يحدث. فراره شكّل ضربة موجعة للعملية الأمنية البرازيلية، خاصة أن المعلومات تشير إلى أنه ربما تنقّل لاحقًا بين تايلاند وتركيا. ومع شميريف، اختفى آخرون أيضًا، ضمن عملية هروب منسقة يُرجّح أنها أُديرت من موسكو

فيليبي مارتينيز (يسار)، وبرناردو سوزا، صديقان لرجل عرفاه باسم جيرهارد دانيال كامبوس فيتيتش. السيد فيتيتش هو الاسم المستعار للجاسوس الروسي أرتيم شميريف.

 أصدقاء مزيفون، مشاعر حقيقية

أحد الأبعاد المثيرة في هذا الملف هو الجانب العاطفي لعلاقات الجواسيس. شميريف، على سبيل المثال، كان على علاقة طويلة الأمد بامرأة برازيلية تُدعى ديبورا، لم تكن تعرف حقيقته. في آخر اتصال هاتفي معها قال لها: “قد تسمعين أشياء عني، لكن صدقيني… لم أقتل أحدًا، لم أفعل شيئًا رهيبًا.” صديقه المقرب، فيليبي، لم يُصدّق الخبر في البداية: “كان يبدو حقيقيًا جدًا. ضحكته، تفاصيله، حتى ذوقه في القهوة.” هذه القصص تطرح تساؤلات حول التوازن بين المهنية المطلقة والإنسانية المُضلّلة في عمل الجواسيس، حيث يصبح الحب والخداع جزءًا من المهمة الرسمية.

كان مكان ميلاد السيد شميريف، وفقًا لأوراق هويته المزورة في ويتيش، هو حي كاتيتي في ريو.

 لعبة الاستخبارات العالمية

البرازيل لم تكن وحدها. تقاطعت خيوط التحقيقات مع أجهزة أمنية في الولايات المتحدة، إسرائيل، هولندا، وأوروغواي. بعض الجواسيس الذين بدأت رحلتهم من ريو دي جانيرو انتهى بهم المطاف في أوروبا أو الشرق الأوسط. أحدهم التحق بجامعة أمريكية، وآخر عمل في مركز أبحاث في النرويج. هذا الاتساع الجغرافي يُظهر كيف بُنيت العملية الروسية على مدى سنوات لتخترق المنظومة الغربية من الداخل — لا كعملاء مؤقتين، بل كمواطنين “أصليين”. التهديد لم يكن في نشاط تجسسي مباشر، بل في إمكانية الوصول التدريجي لمواقع حساسة في القضاء، الأوساط الأكاديمية، والأمن.

منظرٌ لمدينة بوتافوغو. بدت البرازيل مكانًا مثاليًا للجواسيس الروس لبناء ثرواتهم. من غير المرجح أن يبرز شخصٌ ذو ملامح أوروبية ولهجة خفيفة في هذا البلد الأمريكي الجنوبي متعدد الأعراق.

 عقاب من نوع مختلف

أمام محدودية الأدلة القانونية وصعوبة إثبات “التجسس”، اختارت البرازيل استراتيجية بديلة: الفضح الإعلامي. أصدرت مذكرات توقيف دولية، وأرسلت صور الجواسيس إلى 196 دولة، ونسّقت مع الإنتربول عبر تصنيفهم كمزوّري وثائق. بهذه الخطوة، لم تُلقِ القبض عليهم فقط، بل دمّرت مستقبلهم المهني إلى الأبد. الجاسوس الذي يُفضَح يفقد قيمته — وهذه هي الضربة القاسية التي سعت البرازيل لتوجيهها إلى موسكو. كما تعزز هذا الخيار مع بلدان أخرى، منها أوروغواي، التي تبنّت نفس التكتيك، ما يشير إلى تنسيق استخباراتي غير معلن لمواجهة النشاط الروسي العالمي.

النهاية التي لم تُكتب بعد

لا تزال الأسئلة الكبرى بلا إجابة: من أمر بتجنيد هؤلاء؟ ولماذا اختيرت البرازيل تحديدًا؟ ومتى بدأ هذا المشروع؟ تشيركاسوف، الوحيد الذي أُدين، يقضي الآن حكمًا بالسجن خمس سنوات، بينما لا يزال الآخرون أحرارًا  أو مختبئين. تحقيق “نيويورك تايمز” يسلّط الضوء على عالم غير مرئي، حيث تُبنى الهويات في الظل، وتُخاض الحروب دون إطلاق رصاصة واحدة. وبينما تستمر البرازيل في تطهير سجلاتها، تظل القصة مفتوحة على احتمالات كثيرة. ما حدث هنا ليس نهاية، بل بداية لفصل جديد في حرب الظلال التي تدور بصمت حول العالم.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى