بطاقات الهوية الرقمية:ورقه رابحه لبريطانيا وسلاح سري في يد العمال لمواجهة ريفرم
"بطاقات الهوية الرقمية: ورقة رابحة لبريطانيا في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية"

لطالما مثّلت عبارة “أوراقك من فضلك!” صوتًا مرعبًا في أفلام الحروب، ترمز إلى القمع والأنظمة البوليسية التي عرفها التاريخ. غير أن بريطانيا – التي طالما تباهت بعدم فرض بطاقات الهوية على مواطنيها – قد تجد نفسها اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة النظر في هذا الإرث، مع تغير الظروف وتبدل المزاج العام.
في ظل معركة سياسية متصاعدة، يلوح في الأفق مشروع “بطاقة بريت” الرقمية، كأداة تقنية وتنظيمية قادرة على إحداث تحولات مهمة في إدارة الدولة وتعزيز الشعور بالهوية الوطنية. وهو طرح قد يشكّل رهانًا ذكيًا لحزب العمال لمواجهة تصاعد تهديد حزب “ريفرم” بزعامة نايجل فاراج، خاصة بعد عام صعب أمضاه الحزب في السلطة.
تبسيط البيروقراطية وتعزيز الكفاءة
أحد أبرز مزايا البطاقات الرقمية يكمن في قدرتها على توحيد الإجراءات الحكومية المتفرقة والمعقدة. فبحسب مركز الأبحاث “ليبر توغيذر”، المقرب من دوائر صنع القرار، يواجه المواطن البريطاني اليوم أكثر من 190 طريقة مختلفة للوصول إلى الخدمات الحكومية عبر الإنترنت. بطاقة رقمية موحدة يمكن التحقق منها فورًا من قبل أصحاب العمل أو المؤجرين، باستخدام تطبيق مجاني، تمثل حلاً تكنولوجيًا عصريًا يخفف من التعقيد، ويعزز السيطرة الفردية على البيانات والخدمات العامة.
قبول شعبي متزايد
تشير الأرقام إلى أن الأغلبية باتت تؤيد هذا التوجه؛ فبحسب استطلاع أجرته مؤسسة “مور إن كومون”، فإن 53% من البريطانيين يؤيدون فكرة الهوية الرقمية، بينما يعارضها فقط 19%. اللافت أن هذا التأييد يتجاوز الانتماءات الحزبية والعمرية، ويشمل أنصار العمال والمحافظين والديمقراطيين الأحرار وحتى حزب ريفرم.
وهم الحرية مقابل الواقع الرقمي
رغم أن بعض الأصوات قد تتحسر على ضياع “حق الاختفاء” أو بدء حياة جديدة من دون أثر، إلا أن مثل هذه الرؤى تبدو اليوم رومانسية أكثر منها واقعية. فكل حركة رقمية نقوم بها تُسجل، وكل تفضيل نُظهره يلتقطه الذكاء الاصطناعي. والواقع أن كثيرين يشعرون بأن بياناتهم مبعثرة على عشرات المنصات، لذا فإن توحيدها في هوية رقمية واحدة تمنحها الدولة قد يكون خطوة نحو استعادة السيطرة، لا فقدانها.
ورقة سياسية للهجرة والسيطرة على الحدود
لا يمكن تجاهل البُعد السياسي لهذا المشروع، خصوصًا في ملف الهجرة. إذ يُنظر إلى الهوية الرقمية كخط دفاع ثانٍ ضد المهاجرين غير النظاميين، عبر حرمانهم من فرص العمل أو السكن أو الاستفادة من الخدمات العامة من دون بطاقة موثقة. هذا التوجه قد يطمئن أولئك القلقين من الهجرة، خاصة أن الدراسات تُظهر مبالغة في تقدير أعداد القادمين دون وثائق، في حين أن الواقع أقل تهديدًا بكثير.
تاريخ طويل من المحاولات
ليست هذه المرة الأولى التي يُطرح فيها مشروع كهذا. فقد حاول رئيس الوزراء الأسبق توني بلير طرح بطاقة “الاستحقاق” في 2003، بدعم من كبار المسؤولين الأمنيين، إلا أن المشروع اصطدم بتكاليف باهظة (85 جنيهًا للبطاقة)، وتم إلغاؤه بعد وصول حكومة الائتلاف إلى السلطة في 2010. اليوم، تأتي النسخة الرقمية كحل أكثر اقتصادية وسهولة، بل ومجانية، وفقاً لمقترحيها.
مخاطر حقيقية وثقة مفقودة
رغم مزايا المشروع، إلا أن هناك تخوفًا حقيقيًا من تعطل النظام أو ظلم الأفراد بقرارات آلية غير قابلة للطعن السريع. فوزارة الداخلية البريطانية لديها سجل متعثر، كما كشفت فضيحة “ويندراش” التي لا يزال بعض ضحاياها ينتظرون العدالة. لذا فإن أي نظام جديد يجب أن يتضمن ضمانات حديدية وحقًا في الاستئناف السريع أمام القضاء، لحماية المواطنين من البيروقراطية الجامدة أو الخطأ التقني.
معركة رمزية على الهوية الوطنية
في النهاية، لا يمكن فصل هذا المشروع عن معركة أوسع حول الهوية البريطانية في عصر ما بعد البريكست. فبينما يسعى البعض لمغادرة الاتفاقيات الأوروبية مثل الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، يتمسك حزب العمال بخطاب الهوية الاجتماعية الديمقراطية، الذي يرى في الهوية الرقمية وسيلة لترسيخ الحقوق وليس نزعها. بطاقة الهوية هنا ليست فقط وسيلة للضبط، بل شهادة انتماء ومشاركة في العقد الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع البريطاني.