علاقة غير متوقعة تطيل العمر: إناث البابون اللاتي يرتبطن بآبائهن يعشن أطول
دراسة ميدانية تكشف الدور الخفي للآباء في حياة بعض الرئيسيات

في عالم البابون، لطالما ساد اعتقاد بأن الذكور هم “آباء غائبون”، لا يشاركون في تربية صغارهم ولا يؤدون دوراً يذكر في حياتهم اليومية. لكن دراسة حديثة نسفت هذه الفرضية، حين كشفت أن إناث البابون اللاتي يتمتعن بعلاقات قوية مع آبائهن في الطفولة يعشن أعماراً أطول بكثير من نظيراتهن.
أرقام تغير قواعد اللعبة
الدراسة، التي نُشرت في مجلة Proceedings of the Royal Society B، تابعت حياة 216 أنثى بابون بري في كينيا، وُلدن من 102 ذكرًا تم تحديدهم بدقة باستخدام التحاليل الجينية. وركّزت على السنوات الأربع الأولى من حياة كل أنثى، وهي فترة الطفولة الحرجة، لتقييم مدى تفاعلها مع الأب – سواء عبر سلوك التزين (grooming) أو عدد الأيام التي أمضياها معاً في نفس المجموعة الاجتماعية.
النتائج كانت مفاجئة: الإناث اللواتي قضين وقتاً أطول مع آبائهن وتشاركن معهم لحظات التزين، عشن في المتوسط من سنتين إلى أربع سنوات أطول من نظيراتهن الأقل حظاً.
فارق زمني يعني فرصاً تطورية
للوهلة الأولى، قد لا يبدو فارق عامين أو ثلاثة كبيراً. لكن في عالم البابون، حيث يبلغ متوسط عمر الأنثى البالغة حوالي 18 عاماً، فإن هذه الزيادة تشكل نحو 20% من متوسط الحياة، ما يمنح الأنثى فرصة إضافية للإنجاب، وبالتالي تعزيز انتقال جينات الأب إلى الأجيال القادمة. وكما تشير البروفيسورة إليزابيث آرتشي، الباحثة في جامعة نوتردام، فإن هذه النتائج تعيد تقييم فهمنا للدور التطوري الذي يمكن أن يلعبه الأب في حياة بناته، حتى في أنواع الرئيسيات التي لطالما اعتُقد أن الأب فيها لا يشارك في تربية صغاره.
لماذا تؤثر العلاقة بالأب على طول العمر؟
الدراسة لم تحسم السبب بدقة، لكنها طرحت عدداً من الفرضيات المثيرة:
الحماية الاجتماعية: وجود الأب قد يوفر “درعاً اجتماعياً” يمنع المضايقات أو يحمي من العنف داخل المجموعة.
الدعم الغذائي: قرب الأب قد يحسن فرص حصول الأنثى على الطعام دون مضايقة.
الراحة النفسية: العلاقة الوثيقة قد توفر بيئة آمنة ومستقرة تؤثر إيجابياً على الصحة النفسية والجسدية.
ومن ناحية أخرى، لم تستبعد الباحثة احتمالاً معاكساً: قد تكون الإناث الأكثر قوة وصحة أصلاً هن الأكثر قدرة على تكوين علاقة جيدة مع الأب، وبالتالي يتمتعن بحياة أطول لا بسبب العلاقة نفسها، بل بسبب متغيرات أساسية أخرى.
الآباء فقط.. لا غيرهم
واحدة من أكثر النتائج إثارة للدهشة أن العلاقة الوثيقة بالذكور الآخرين في المجموعة، حتى وإن كانوا مقربين، لم تؤثر على العمر المتوقع. هذه النتيجة تقوّي الفرضية بأن الرابط البيولوجي بين الأب والابنة يحمل خصوصية لا يمكن تعويضها.
ما الذي تعنيه هذه النتائج؟
تفتح هذه الدراسة الباب أمام إعادة النظر في الأدوار الأبوية في عالم الرئيسيات. فحتى لو لم يكن الذكر يشارك مباشرة في رعاية النسل، فإن وجوده وعلاقته العاطفية البسيطة مع صغاره قد تترك أثراً تطورياً عميقاً يمتد لأجيال. وهو ما قد يقود إلى طرح أسئلة جديدة:
هل يمكن أن تكون هذه الديناميكيات موجودة في أنواع حيوانية أخرى؟
وهل العاطفة والعلاقات الاجتماعية تلعب دوراً أكبر مما نتوقع في البقاء والنمو؟
في بيئة يُفترض أنها لا تتيح للأب تأثيراً كبيراً، تظهر هذه الدراسة كيف أن الروابط الاجتماعية المبكرة يمكن أن تغير مجرى حياة بأكملها. علاقة الأب بابنته في سنوات الطفولة قد لا تكون صاخبة، لكنها عميقة، ولها نتائج ملموسة على البقاء، الصحة، وربما حتى النجاح الإنجابي.
ربما آن الأوان لإعادة النظر في الأدوار “الصامتة” التي تلعبها الأبوة في عالم الحيوان… وربما أبعد من ذلك.