تناقضات حادة بين تصريحات البيت الأبيض ومواقف وزارة العدل الأمريكية
قضاة أمريكيون ينتقدون تناقضات البيت الأبيض حول الترحيل الجماعي

في ظل الجدل المتصاعد حول سياسة الترحيل الجماعي التي يتبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدأ قضاة فيدراليون بالتدقيق بحدة في التناقض الواضح بين تصريحات كبار المسؤولين في البيت الأبيض وبين الموقف القانوني الذي تعرضه وزارة العدل في قاعات المحاكم. يأتي ذلك عقب تصريحات أدلى بها المستشار البارز ستيفن ميلر، قال فيها إن إدارة ترامب تهدف إلى تنفيذ ما لا يقل عن 3,000 عملية اعتقال يوميًا من قبل عناصر “الهجرة والجمارك” (ICE) في إطار خطة ترحيل غير مسبوقة. لكن في الوقت نفسه، نفت وزارة العدل بشكل قاطع أمام المحاكم وجود أي حصة أو هدف رقمي رسمي، مما أثار شكوكًا قضائية عميقة حول مصداقية الموقف الحكومي.
تصريحات متناقضة تحت المجهر القضائي
في مايو الماضي، صرّح ستيفن ميلر عبر قناة فوكس نيوز أن هدف إدارة ترامب هو تنفيذ 3,000 عملية اعتقال يوميًا على الأقل. لكن أثناء جلسات المحكمة الأسبوع الماضي، أنكرت وزارة العدل بشكل قاطع صدور أي توجيهات رسمية بشأن هذا الهدف. المحامي الحكومي ياكوف روث أكد لمحكمة الاستئناف التاسعة أن وزارة الأمن الداخلي “لم تصدر أي أوامر بوضع حصص رقمية”، معتبرًا أن التقارير الصحفية حول هذا الرقم “مجهولة المصدر”. لكن القضاة أشاروا إلى أن المصدر في هذه الحالة لم يكن مجهولًا، بل هو ميلر نفسه، أحد أبرز صُنّاع السياسة في البيت الأبيض.
قرارات قضائية تستند إلى التناقضات
القاضية الفيدرالية جيا كوب، المعيّنة من قبل الرئيس السابق جو بايدن، استخدمت تصريحات ميلر كدليل على تجاوزات محتملة في توسعة إجراءات الترحيل السريع، ووصفتها بأنها “مخالفة صريحة للقانون”. وفي سان فرانسيسكو، أوقفت القاضية ترينا تومسون محاولة الحكومة لإنهاء الحماية المؤقتة لعشرات الآلاف من المهاجرين من نيكاراغوا وهندوراس ونيبال، مشيرة أيضًا إلى الهدف المعلن بـ3,000 اعتقال يومي كعنصر جوهري في استنتاجاتها.
محاكم الاستئناف: التضارب يقوّض الثقة
في الجلسة الأخيرة لمحكمة الاستئناف التاسعة، وجد القضاة أنفسهم أمام مأزق قانوني وأخلاقي، إذ واجهوا التباين الحاد بين ما تعلنه إدارة ترامب في الإعلام، وبين ما تنفيه وزارة العدل أمام القضاء. وقد علّق القضاة الثلاثة، المعينون من قبل رؤساء ديمقراطيين، بأن الممارسات المتبعة من قبل ICE تثير الاشتباه في أنها تستهدف الأفراد بناءً على مظهرهم أو لهجتهم أو مواقع تواجدهم، مثل قربهم من مغاسل السيارات أو محلات الأدوات المنزلية — مما يُعد خرقًا واضحًا لمبدأ “الاشتباه المعقول” الذي ينص عليه القانون.
البيت الأبيض يلتف على الأسئلة… والعدالة في مأزق
رفضت المتحدثة باسم البيت الأبيض، أبيغيل جاكسون، الرد مباشرة على تساؤلات الصحفيين حول التناقض بين تصريحات ميلر وموقف وزارة العدل، واكتفت بتكرار موقف الإدارة بقولها إن “ترامب عازم على تنفيذ أوسع عملية ترحيل في التاريخ”. أما وزارة العدل، فصرّحت بعدم وجود أي تضارب في المواقف، مؤكدة أن “الإدارة بأكملها موحدة في تنفيذ قوانين الهجرة”. لكن القضاة يزدادون قلقًا من أن تكون الوزارة تُدافع عن سياسات لا تتطابق مع ما يُقال علنًا، مما يضعف الثقة في مرافعات الحكومة.
دافع قانوني أم هدف سياسي؟
المعارضون لسياسات ترامب يعتبرون أن الرقم اليومي المستهدف من الاعتقالات يمثل ضغطًا غير مشروع على عناصر ICE، ويدفعهم لتنفيذ اعتقالات اعتباطية، ما يفتح الباب أمام انتهاك حقوق المهاجرين القانونية والدستورية. المحامي محمد تاجسر من اتحاد الحريات المدنية (ACLU) أشار في مذكرته إلى المحكمة بأن “الرسائل الحكومية المنمقة لا تنفي وجود الحصة”، معتبرًا أن ذلك الضغط وحده كفيل بتغيير سلوك الضباط على الأرض. أما الحكومة، فرأت أن وجود هدف رقمي “لا يعني بالضرورة حصول انتهاك”، وهو ما شكك فيه القضاة علنًا.
قضية لوس أنجلوس… عنوان مواجهة أكبر
الجدل القانوني بلغ ذروته في القضية المرفوعة بشأن حملات الاعتقال العشوائية في لوس أنجلوس، حيث اتُّهمت عناصر ICE بتنفيذ عمليات “تجوال” تستهدف المهاجرين على أساس ملامحهم أو سلوكياتهم، وليس بناءً على معلومات موثوقة. وعندما حاولت الإدارة إلغاء أمر قضائي سابق يمنع هذه الحملات، اصطدمت مجددًا بتصريحات ميلر التي وُظّفت كدليل على وجود تعليمات مركزية، رغم نفي وزارة العدل. هذه التناقضات تدفع المحاكم نحو موقف أكثر تشددًا، يفرض رقابة قضائية صارمة على تحركات أجهزة الهجرة.
إدارة قضائية لـ”واقع مزدوج“
بات من الواضح أن الإدارة الأمريكية تتحدث بلغة للناخبين، وأخرى مختلفة للقضاة. في الإعلام، تُظهر قوة وتصميمًا على الترحيل، بينما في قاعات المحاكم تنفي تلك السياسات لتفادي الملاحقة القانونية. هذا “الواقع المزدوج” يضع وزارة العدل في موقع حرج، حيث تجد نفسها مطالبة بالدفاع عن ممارسات تُشكك المحاكم في دستوريتها. القضاة لا يتعاملون فقط مع القوانين، بل مع صدقية المؤسسات، والتناقض العلني يُهدد هذه الصدقية في العمق.