البوسنة على شفا الانفجار من جديد: هل تعيد سريبرينيتسا التاريخ أم توقفه؟
في الذكرى الثلاثين للمجزرة.. تصعيد انفصالي يقوده دوديك بدعم بوتين، ومخاوف من انقسام فعلي في البوسنة تحت أنظار أوروبا

في الذكرى الثلاثين لمجزرة سريبرينيتسا التي هزّت ضمير أوروبا، تقف البوسنة مجددًا على حافة أزمة تهدد بتقويض ما تبقى من اتفاق دايتون.
وفي قلب العاصفة رجل واحد: ميلوراد دوديك، الزعيم الصربي البوسني، الذي يعيد رسم الخطوط الحمراء للسيادة والوحدة الوطنية، بدعم معلن من موسكو، وصمت دولي متردد.. نقلا عن جريدة الفيننشال تايمز
دوديك… بين بوتين وسراييفو
رغم صدور أمر اعتقال بحقه في مارس الماضي بتهمة انتهاك اتفاق دايتون، لم يتردد دوديك في الصعود إلى طائرته الخاصة متجهًا إلى موسكو للقاء فلاديمير بوتين.
ولم تمضِ سوى أسابيع حتى عاد إلى العاصمة الروسية مرة أخرى. للمشاركة في احتفال بالنصر السوفييتي على النازية، إلى جانب طيف من القادة المشكوك في شرعيتهم.
هذا التقارب ليس جديدًا، لكنه بات أكثر استفزازًا. في وقت يرى فيه المسؤولون الأوروبيون أن البوسنة تدخل أخطر لحظة سياسية منذ الحرب الأهلية، وأن دوديك أصبح أكبر تهديد لوحدة البلاد واستقرارها.
أزمة هيكلية منذ دايتون… والانفجار يقترب
أسس اتفاق دايتون لعام 1995 دولة هشة من كيانين شبه مستقلين: “اتحاد البوسنة والهرسك” للمسلمين والكروات، و”جمهورية صربسكا” للصرب. ورغم إحلال السلام، ظلت الدولة رهينة الانقسامات العرقية، ومؤخرًا باتت الحكومة المركزية شبه عاجزة عن احتواء التصعيد السياسي.
وفي سياق ذلك يقول مسؤول غربي بارز: “الأزمة الحالية ليست أمنية بعد، لكنها الأعمق سياسيًا منذ 30 عامًا… وكل الطرق تؤدي إلى دوديك”.
إرث المجازر… حكاية مؤلمة تعود إلى الواجهة.
في قلب هذه الأزمة تقف شخصيات مثل ألمسا صاليوفيتش، التي فقدت شقيقها في مجزرة سريبرينيتسا عام 1995. بعد سنوات من الانتظار، تلقت اتصالًا يقول: “وجدنا تطابقًا في الحمض النووي… شقيقك عبد الله”، في إشارة إلى عظام فخذين فقط.
صاليوفيتش، التي تعمل حاليًا في مركز سريبرينيتسا التذكاري، ترى أن ما تحقق من اعتراف بحقيقة الإبادة الجماعية يتلاشى أمام عودة إنكار الجرائم وتصاعد القومية الصربية. وتقول: “صرت أخشى من مدى سهولة خداع الناس بخطاب قومي يعود بالتاريخ للوراء”.
زعيم الانفصال الذي كان “نسمة هواء نقي”
المفارقة أن دوديك كان يُنظر إليه في الغرب عند ظهوره عام 1998 كوجه إصلاحي معتدل. لكن في العقدين الأخيرين، تحوّل إلى شخصية استبدادية تستند إلى خطاب قومي صربي، وتهاجم أي مبادرة للاعتراف بالمجزرة.
في فبراير الماضي، حكمت عليه محكمة في سراييفو بالسجن عامًا واحدًا ومنعه من ممارسة السياسة 6 سنوات. لكنه تجاهل الحكم، ما طرح تساؤلات خطيرة: هل تتجرأ الدولة على تنفيذه؟ خاصة أن دوديك يتحرك مدعومًا بميليشيات مسلحة.
الاستقواء ببوتين وأوربان… مشروع ترانسنيستريا جديدة؟
يرى كثيرون أن دوديك يسعى لتكرار نموذج ترانسنيستريا في غرب البلقان، أي إنشاء كيان فعلي منفصل مدعوم من موسكو. وقد دفع العام الماضي بقوانين تجعل سلطته في “جمهورية صربسكا” مستقلة عن المؤسسات المركزية، ويخطط لإجراء استفتاء على “دستور جديد”، يُنظر إليه كمقدمة للانفصال.
وفي مواجهة العقوبات الأوروبية، لا يزال يتمتع بدعم صريح من فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، وحليف بوتين داخل الاتحاد الأوروبي.
أزمة دولة تعاني من الفساد والنزوح الجماعي
في خضم الصراع السياسي، تواجه البوسنة مشاكل هيكلية أخرى: الفساد المستشري، والشلل الإداري، والنزوح الجماعي. فقد تراجع عدد السكان من 4.2 مليون في 2002 إلى نحو 3 ملايين فقط اليوم.
تقول غوردانا ميلادينوفيتش، الناشطة في مكافحة الفساد، إن النظام الإداري المنبثق عن دايتون “صُمم ليفرز الفساد”، وإن النخبة السياسية لا تزال تستخدم الدولة لتحقيق مصالحها الشخصية، بينما الشبان يفرّون بحثًا عن مستقبل في الخارج.
الاتحاد الأوروبي: وعود عضوية لا تُقنع أحدًا
رغم أن الرأي العام في البوسنة يؤيد الانضمام للاتحاد الأوروبي، إلا أن المسؤولين المحليين يرون أن “أوروبا تكذب علينا، ونحن نكذب عليها”، بحسب تعبير المعارض الصربي البارز ملادين إيفانيتش، الذي دعا إلى نموذج عضوية تدريجي وفق مقترح فرنسي.
أما المفوض الدولي الأعلى في البوسنة، كريستيان شميت، فقد أقر بأن النظام الحالي لا يمكن إصلاحه بسهولة، وقال ممازحًا: “قد أبقى في منصبي 20 سنة أخرى إن أردت أن أكون آخر مفوض”.
مستقبل غامض… والانقسام يترسخ
مع تزايد القيود على الإعلام والمجتمع المدني في “جمهورية صربسكا”، وتحركات دوديك لتقويض الدولة المركزية، يرى المراقبون أن البوسنة تتجه فعليًا نحو التقسيم غير المعلن.
تقول أستاذة العلوم السياسية في سراييفو، ندجمة دزانانوفيتش: “نحن نُطبع مع الانفصال النهائي… دوديك يتلقى الضرائب ويستخدم العملة الوطنية، لكنه لا يعترف بأي مؤسسة اتحادية”.
في ذكرى سريبرينيتسا… الصمت لا يكفي
بينما يستعد المسؤولون الغربيون لإصدار بيانات حزينة لإحياء ذكرى المجزرة، يتصاعد القلق في الشارع البوسني من أن العالم سيترك الأزمة الحالية لتتعفن. تقول دزانانوفيتش: “طالما أن عائلة دوديك وأصوله في أمان، سيستمر في التصعيد… وإذا شعر بالخطر سيتجه إلى بودابست أو في أسوأ الأحوال إلى موسكو”.