الصحة والتعليم

حرب الثيميروسال:هل يكرر روبرت كينيدي جونيور أخطاء الماضي ؟

حرب "الثيميروسال": هل يكرر روبرت كينيدي جونيور أخطاء الماضي؟

منذ أن تولى روبرت إف. كينيدي جونيور منصب وزير الصحة الأمريكي، لم يتوقف عن إطلاق مواقف مثيرة للجدل، لعل أبرزها مطالبته بحظر استخدام مادة “الثيميروسال” (thimerosal) في لقاحات الإنفلونزا. وهو موقف يعود به إلى معاركه السابقة في هذا الملف، حيث أصدر في عام 2014 كتابًا هاجم فيه بشدة هذه المادة واتهمها بالتسبب في التوحد واضطرابات النمو العصبي لدى الأطفال. وفي أواخر يونيو 2025، تبنّى المجلس الاستشاري الذي شكّله كينيدي هذا التوجه، حين أوصى خمسة من أعضائه السبعة بإزالة الثيميروسال من جميع لقاحات الإنفلونزا. وبينما يبدو أن قرار الحظر بات وشيكًا، تشير الأدلة العلمية إلى أن هذا التوجه قد يكون خطأً فادحًا، يحمل في طياته مخاطر تتجاوز الجانب الطبي إلى ما هو أعمق: شرعنة العلم الزائف وتسييس الصحة العامة.

 

ما هو الثيميروسال؟

الثيميروسال هو مركّب يحتوي على الإيثيل-زئبق، ويُستخدم منذ عقود كمادة حافظة في لقاحات متعددة الجرعات، حيث يحول دون تلوث اللقاح بالبكتيريا نتيجة تكرار إدخال الإبر في القارورة نفسها. ورغم احتوائه على الزئبق، فإن العلماء يميّزون بين نوعيه: “الميثيل-زئبق” السام الموجود في بعض الأسماك والذي يسبب أضرارًا عصبية، و”الإيثيل-زئبق” الموجود في الثيميروسال والذي يتفكك ويُطرح سريعًا من الجسم.

جذور الشكوك ومخاوف التسعينيات

في تسعينيات القرن الماضي، تزامن ارتفاع معدلات تشخيص التوحد في الولايات المتحدة مع انتشار لقاحات تحتوي على الثيميروسال، ما أثار موجة قلق عامة ودفع السلطات الصحية إلى اتخاذ تدابير وقائية. وبحلول عام 2001، أوصت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) بإزالة الثيميروسال من معظم لقاحات الأطفال دون سن السادسة. وبالفعل، استُبدلت لقاحات متعددة الجرعات بأخرى أحادية الجرعة لا تحتاج إلى مواد حافظة.

 

الدنمارك.. تجربة تنسف الفرضية

غير أن التجارب الواقعية كشفت لاحقًا أن إزالة الثيميروسال لم يكن لها أي أثر على معدلات التوحد. ففي عام 2003، نشرت دورية “Pediatrics” دراسة واسعة من جامعة “آرهوس” في الدنمارك، أظهرت أن معدلات التوحد واصلت ارتفاعها في البلاد رغم إزالة الثيميروسال من جميع اللقاحات منذ 1992. وهو ما قوّض الفرضية التي ربطت بين هذه المادة والاضطرابات العصبية.

 

دراسات دولية تنفي العلاقة مع التوحد

لم تقتصر الأدلة على الدنمارك. فقد أجريت دراسات موسعة في الولايات المتحدة وبريطانيا، تناولت بيانات من أكثر من 100 ألف طفل، ولم تجد أي علاقة ذات دلالة إحصائية بين التعرض للثيميروسال وظهور اضطرابات عصبية. بعض الدراسات أشارت إلى احتمال وجود علاقة طفيفة بحركات لا إرادية (tics)، لكنها لم تثبت أي صلة بالتوحد تحديدًا. وتؤكد الدكتورة كاثرين إدواردز، خبيرة سلامة اللقاحات بجامعة فاندربيلت، أن “العلاقة بين الثيميروسال والتوحد تم تفنيدها بشكل كامل”.

 

التأثيرات الجانبية المعروفة محدودة جدًا

حتى اليوم، لم يُثبت أي ضرر صحي كبير ناجم عن الثيميروسال باستثناء حالات نادرة من الحساسية الموضعية، تتجلى في احمرار أو تورم مكان الحقن. ووفقًا لتقديرات إدارة الغذاء والدواء، فإن الجرعة الواحدة من لقاح الإنفلونزا المحتوي على الثيميروسال تحتوي على كمية من الزئبق تعادل ما يوجد في علبة تونة واحدة.

 

الآثار العملية لحظر الثيميروسال

ورغم أن استخدام الثيميروسال تقلّص في الولايات المتحدة ليقتصر على نحو 4% فقط من جرعات لقاحات الإنفلونزا (تحديدًا تلك التي تُعطى من قوارير متعددة الجرعات)، فإن حظره الكامل قد يحمل آثارًا عملية ضارة. فهذه اللقاحات أرخص وأسهل في التخزين والتوزيع، ما يجعلها مثالية في الحملات الموسمية واسعة النطاق، خاصة في المناطق الفقيرة. ويؤكد الدكتور جيك سكوت، أخصائي الأمراض المعدية في جامعة ستانفورد، أن الحظر قد يبطئ استجابة البلاد في مواجهة الأوبئة المستقبلية.

 

صناعة بدائل قد تستغرق سنوات

تطوير مواد حافظة بديلة فعالة وآمنة هو أمر ممكن، لكنه يتطلب وقتًا وتمويلاً وتجارب متعددة. ويخشى خبراء الصحة من أن يؤدي الاستعجال في الاستجابة لمزاعم غير مثبتة علميًا إلى نقص في اللقاحات أو تأخير في حملات التلقيح السنوية. ما قد يُضعف البنية التحتية الصحية بدل أن يعززها.

 

خطر الانصياع للعلم الزائف

الخطر الأكبر من حظر الثيميروسال يكمن في الرمزية السياسية. إذ يرى كثير من الخبراء أن استجابة وزارة الصحة لضغوط المشككين في اللقاحات، رغم تراكم الأدلة العلمية المناقضة لمزاعمهم، يشكل سابقة خطيرة. وتحذر الدكتورة إدواردز من أن منح الشرعية لمزاعم لا أساس لها قد يفتح الباب لمزيد من الهجمات على اللقاحات وعلى الصحة العامة نفسها، في وقت لا تزال فيه المجتمعات تتعافى من تبعات جائحة كورونا وما رافقها من حملات تضليل.

 

بين الحقيقة والشعبوية

في النهاية، تبدو الحرب على الثيميروسال مثالًا واضحًا على التوتر المتزايد بين العلم والسياسة. فبينما تؤكد الأبحاث أن المادة آمنة ومفيدة في سياقها الصحيح، فإن الضغوط الشعبوية قد تدفع صناع القرار نحو خيارات تبدو محبوبة سياسيًا، لكنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية صحيًا. وما سيحدث في الأسابيع المقبلة قد يحدد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستستمر في اتباع الدليل العلمي، أم أنها ستنجرّ إلى معارك أيديولوجية على حساب صحة مواطنيها.

اقرأ أيضاً

رئيس الوزراء يبدأ جولته في العين السخنه بتفقد سفينه تغييز الغاز الطبيعي المسال Energos Eskimo

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى