أوروبا لا تحتاج إلى الاختيار بين «الدبابات» و«الخبز».. هناك طريق ثالث
أوروبا تبحث عن توازن بين الإنفاق العسكري والرعاية الاجتماعية الآن

في خضم التوترات الأمنية المتصاعدة عالميًا، وبعد تراجع الالتزام الأمريكي بحماية القارة العجوز، تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى زيادة الإنفاق العسكري. لكن الرؤية التي تروج للاختيار بين تمويل الجيوش أو تمويل الرعاية الاجتماعية هي رؤية مضللة وخطيرة في آنٍ واحد. فالتجربة التاريخية، كما يشير الاقتصاديان شاهين فالي وجوزيف دو ويك، تثبت أن السؤال الحقيقي لم يكن أبدًا “الأسلحة أم الرفاه”، بل “الأسلحة أم الضرائب”.
معضلة الإنفاق العسكري تعود من جديد

أعادت حرب أوكرانيا، وتراجع التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف الناتو، أوروبا إلى أجواء الحرب الباردة، لكن بدون المظلة النووية الأمريكية المضمونة. في قمة الناتو الأخيرة بمدينة لاهاي، تعهدت الدول الأوروبية برفع إنفاقها الدفاعي من 2% إلى 3.5% من الناتج المحلي بحلول عام 2035. لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية تمويل هذه القفزة دون تفكيك شبكات الحماية الاجتماعية التي يعتمد عليها ملايين الأوروبيين.
الذاكرة التاريخية تُفند سردية “الدبابات مقابل الرفاه”
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، خفّضت الحكومات الأوروبية نفقاتها العسكرية واستثمرت ما يُعرف بـ”عائد السلام” في خفض العجز وتقليص الضرائب، وليس كما يُروج على نطاق واسع في توسعة برامج الرفاه فقط. صحيح أن بعض الإنفاق الاجتماعي ازداد، لا سيما على معاشات التقاعد والرعاية الصحية، لكنه كان موجهًا في الغالب إلى فئات عمرية متقدمة، بينما تراجع الدعم للفئات العاملة والشباب، ما يعني أن “عائد السلام” خدم بدرجة كبيرة أصحاب رؤوس الأموال، لا الطبقات الكادحة.
الإنفاق العسكري لا يجب أن يُموّل من جيوب الفقراء
اليوم، يُطرح من جديد سيناريو تمويل الجيش عبر تقليص الإنفاق الاجتماعي. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حذر مواطنيه في خطاب تلفزيوني من تضحيات مالية في عالم “أكثر قسوة”، لكنه استبعد زيادة الضرائب، مفضلاً التقشف. أما رئيسة وزراء الدنمارك فقررت إلغاء عطلة رسمية لتمويل الجيش، فيما قلّصت بريطانيا مساعداتها الدولية. هذه السياسات تعيد إنتاج المعادلة الخاطئة ذاتها التي سادت في التسعينيات: تمويل الأمن عبر إضعاف العدالة الاجتماعية.
الضرائب العادلة طريق بديل وممكن
ما تحتاجه أوروبا ليس تفكيك دول الرفاه، بل إصلاح منظومتها الضريبية لتكون أكثر عدلاً. فبين عامي 1985 و2023، انخفض متوسط ضرائب الشركات إلى النصف تقريبًا في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كما تراجعت الضرائب على الأرباح الرأسمالية بشكل حاد. في ألمانيا مثلاً، انخفضت من 53% إلى 26%، وفي بريطانيا من 30% إلى 24%. هذه التخفيضات خدمت الأغنياء وحجّمت قدرة الدول على الاستجابة للأزمات.
ضرائب أقل.. وديون أكثر على الفقراء
من المفارقات أن بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا فضّلت الاستدانة لتمويل الإنفاق العسكري، رغم أن الدين العام يُعد ضريبة مؤجلة وغير عادلة، حيث يتحمّل عبئها الفقراء أكثر من الأغنياء. وإذا لم يتم الاتفاق على آلية اقتراض مشترك على مستوى الاتحاد الأوروبي كما حدث خلال جائحة كوفيد، فإن الدول المثقلة بالديون مثل إيطاليا وفرنسا قد تواجه صعوبات في تمويل التسلح دون انتقادات من الأسواق المالية.
ضرورة التوافق الأوروبي على إصلاح النظام الضريبي
تفرض المرحلة الراهنة ضرورة الاتفاق على آلية أوروبية للحد من المنافسة الضريبية بين الدول، التي تحوّلت إلى ملاذات ضريبية مثل أيرلندا ولوكسمبورغ. لا يمكن أن تستمر دول صغيرة في جذب الأرباح دون المساهمة الفعلية في تمويل الدفاع الجماعي. فرنسا وألمانيا طالما دعتا إلى توحيد الضرائب على الشركات داخل الاتحاد، والآن بات هذا التوحيد ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة أمنية.
مناعة داخلية لمواجهة التحديات الخارجية
لا يمكن لأي خطة دفاعية أن تنجح دون دعم شعبي واسع. الجيوش تحتاج إلى بنادق، نعم، لكنها تحتاج أيضًا إلى مواطنين يشعرون أن النظام الذي يدافعون عنه عادل ويمنحهم حياة كريمة. الرخاء الداخلي هو ما يضمن الصمود في وجه التحديات الخارجية. والتضحية بالمكتسبات الاجتماعية لن تنتج سوى مجتمعات منقسمة، هشّة، وأقل قدرة على التصدي لأي تهديد خارجي.
التوازن ممكن.. والرهان على “الأسلحة والعدالة” معًا
في النهاية، تؤكد التجربة العالمية أن “العسكرة الكينزية” ليست نقيضًا للعدالة الاجتماعية، بل شريكًا لها. النجاح في الحروب لا يأتي من صواريخ فائقة السرعة فقط، بل من مواطنين لديهم الثقة بأنهم يقاتلون من أجل مستقبل أفضل. ولهذا، لا ينبغي أن يُنظر إلى الإنفاق العسكري كبديل للرعاية، بل كجزء من عقد اجتماعي جديد يجمع بين الدفاع والعدالة، الأمن والكرامة، السلاح والخبز.