أسرار تُكشف بعد 50 عامًا: قصة الطائرة التي صنعت التنين الصيني

طوال أكثر من نصف قرن، ظلّت طائرة مقاتلة صينية تُعرف بالرمز J-9 حبيسة الشائعات، تُهمس باسمها داخل أروقة مراكز الأبحاث العسكرية، وتتناقلها الكتب والمنتديات كنموذج لفشل غامض أو إنجاز لم يكتمل. لا صورة لها، لا فيديو، لا ظهور علني. مجرد خيال؟ ليس تمامًا. اليوم، وبعد 50 عامًا من السرية والصمت، خرجت بكين أخيرًا عن تحفظها، وكشفت الغطاء عن واحدة من أكثر قصص الطيران العسكري غموضًا، قصة طائرة لم تُحلّق أبدًا، لكنها كانت اللبنة الأولى في بناء أسطول “التنين الطائر” من J-10C حتى J-20 الشبحية.
رحلة الغموض تبدأ من قطار غامض إلى “تشنغدو”
في مايو 1970، وفي ذروة الحرب الباردة، انطلق قطار من مقاطعة لياونينغ شمال شرق الصين، يحمل على متنه أكثر من 300 عالم ومهندس وباحث. لم يُعلن عن الرحلة، ولم يُعرف وجهتها حينها. كانت المهمة سرّية للغاية، والهدف تطوير مشروع المقاتلة J-9. وصل الفريق لاحقًا إلى قاعدة طيران قديمة في تشنغدو، لتُصبح هذه البقعة لاحقًا مركز أبحاث وتصميم الطائرات المقاتلة الأهم في الصين.
ورغم أن المشروع لم يُكتب له الإقلاع – حرفيًا – بسبب عقبات مالية وتقنية، فإن إرثه ظل حيًا داخل المؤسسة التي حملت اسمه. لقد زرع مشروع J-9 بذور الابتكار، وغيّر نظرة الصين للطيران القتالي إلى الأبد.

إرث غير مرئي: الطائرة التي علمت الصينيين الطيران
لا يمكن فهم طبيعة التحول في برامج الطيران الحربي الصيني دون العودة إلى J-9. وفق شهادات باحثين ومهندسين في “معهد تشنغدو”، فقد كانت هذه الطائرة بداية كل شيء. لم تكن مجرد مشروع تقني، بل تجربة جماعية لاختراق حاجز التبعية التكنولوجية. الفكرة لم تكن أن تحلق الطائرة فحسب، بل أن تُحلّق الصناعة نفسها. يقول أحد الباحثين: “كانت J-9 بوابتنا الأولى نحو الابتكار المستقل، رغم أننا لم نراها تطير”.
التصميم الذي غيّر قواعد اللعبة: أجنحة الكنارد
أحد أبرز ما خرج به مشروع J-9 كان ما يُعرف بتكوين “الكنارد”، وهو تصميم مبتكر للجناحين يُركّز على إضافة جناح صغير أمامي بدل الذيل التقليدي. هذه التقنية حسّنت من قدرة الطائرة على المناورة وتقليل الحمل على الجناح الرئيسي، وجعلت التحكم في الطيران أكثر كفاءة.
ما فعله الصينيون في السبعينيات كان متقدمًا بدرجة مذهلة، حتى مقارنة بدول متقدمة. صحيح أن السويد سبقتهم باستخدام الكنارد في طائرات مثل Saab 37، ولكن كانت تصميماتها ثابتة، بينما طوّر الصينيون نسخة متحركة – وهو ما لم يكن له سابقة آنذاك. هذا الأسلوب سيظهر لاحقًا في J-10C وJ-20، مما يثبت أن “الطائرة التي لم تُحلّق” تركت بصمتها.
هل هي حقًا ابتكار صيني خالص؟
لا يخلو سرد القصة من الجدل. فبينما تُشيد الصين بابتكار الكنارد كمساهمة محلية، يشير محللون غربيون إلى أن دولًا أخرى سبقت الصين إلى هذه الهندسة، مثل السويد وإسرائيل وفرنسا. لكن تظل الحقيقة أن الصينيين أخذوا الفكرة وطوّروها، وجعلوها حجر الأساس في هندسة طائراتهم الحديثة. J-9 كانت مدرستهم الأولى، والمعلّمة التي ألهمت الأجيال.
تسليح بعيد المدى: بداية عصر “ما وراء النظر”
في السبعينيات، كانت معظم الطائرات الصينية لا تزال تُصمَّم لتستخدم المدافع التقليدية كسلاح رئيسي. لكن J-9 غيّرت هذا المفهوم جذريًا. تم تطويرها لتستخدم صواريخ جو-جو متطورة، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يعملان بالفعل على أسلحة “ما وراء مدى الرؤية” BVR. يُقال إن J-9 كانت أول طائرة صينية صُممت لهذا النوع من القتال، وهي التي فتحت الباب لاحقًا لظهور صواريخ مثل PL-15، أحد أكثر الأسلحة رعبًا اليوم.
المختبر الذي أصبح مدرسة للأجيال
عندما أُلغيت J-9 في نهاية المطاف، لم يُغلق الملف، بل تحول إلى “مكتبة” داخل معهد تشنغدو. أنشأ الفريق البحثي وحدة مخصصة لتحليل التكتيكات المستقبلية والتطورات التقنية، بقيادة المصمم المخضرم سونغ وينتسونغ – الرجل الذي صمّم لاحقًا J-10. كل ما تعلموه من مشروع J-9، حملوه معهم إلى النماذج التالية.
من الظل إلى القمة: كيف ألهم الفشل انتصارات مستقبلية؟
لا يمكن تجاهل أثر مشروع J-9 في تشكيل هوية المقاتلات الصينية الحديثة. فمن خلاله تعرّف العلماء الصينيون على مفاهيم القتال الجوي الحديثة، واستوعبوا أهمية التكامل بين التصميم والتكتيك. لقد كانت تجربة مريرة، لكنها أسست لفكر عسكري متطور، جعل الصين اليوم تصدّر طائراتها إلى الخارج، وتنافس نظيراتها الروسية والغربية.

التنين الذي تنفّس من الرماد
في عام 2025، تحلّق J-20 فوق مضيق تسوشيما دون أن ترصدها رادارات اليابان أو كوريا الجنوبية. وفي مايو نفسه، تزعم باكستان أن طائراتها من طراز J-10C أسقطت خمس مقاتلات هندية في نزاع حدودي خاطف. وفي كلتا الحالتين، يقف خلف هذه الإنجازات “الشبح الذي لم يُحلّق”… J-9. لقد كانت مشروعًا مبكرًا، لكنه كان نبوءة صينية مبكرة لمستقبل الطيران القتالي.
درس من طائرة لم تُغادر المدرج
قصة J-9 ليست مجرد حكاية طائرة فاشلة. بل هي درس في كيف يمكن للفشل أن يتحول إلى معرفة، وللمشروع غير المكتمل أن يُثمر نجاحات مستقبلية. في عالم التسلح، لا تهم فقط الطائرات التي تُحلّق، بل أيضًا تلك التي تُلهم. وJ-9، رغم أنها لم ترَ السماء، أصبحت نقطة الانطلاق لصعود “تنين الصين” في سماء المنافسة العسكرية العالمية.
إقرأ ايضَا:
ميدفيديف لترامب: “نحن لسنا إسرائيل أو إيران”.. وتحذير من التصعيد