المدونة

فايننشال تايمز | لماذا تنتصر أوكرانيا: إخفاق روسيا في تحقيق هدفها الأساسي — القضاء على الأمة الأوكرانية

على عكس الرواية التي تروّجها الدعاية الروسية، يرى المؤرخ والفيلسوف يوفال نوح هراري أن أوكرانيا حتى الآن هي الطرف الذي يحقق النصر في الحرب. حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب — الذي كان قد نصح في فبراير 2025 نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالرضوخ لمطالب موسكو بحجة أنه “لا يملك الأوراق” — غيّر موقفه مؤخراً، معلناً أن أوكرانيا بدعم الاتحاد الأوروبي “في موقع يمكنها من القتال والفوز”.

البداية الصادمة للغزو

حين اندلع الصراع في 2014، بدت أوكرانيا عاجزة تماماً أمام التوسع الروسي، وسقطت القرم وأجزاء من الشرق بسهولة. ومع الهجوم الكاسح في 24 فبراير 2022، توقّعت موسكو ومعها كثير من المراقبين أن كييف ستنهار خلال أيام. حتى حلفاء أوكرانيا الغربيون عرضوا على زيلينسكي الهروب وتشكيل حكومة في المنفى. لكنه رفض قائلاً عبارته الشهيرة: «أحتاج إلى الذخيرة، لا إلى توصيلة».

هذا القرار المفصلي رفع الروح المعنوية، ومعه بدأت المقاومة الأوكرانية تفاجئ العالم. تم صدّ الهجوم على كييف، ثم شنّت أوكرانيا هجمات مضادة حررت مساحات واسعة، أبرزها انتصارات خاركيف وخيرسون في صيف وخريف 2022.

روسيا عالقة في المأزق

منذ ذلك الحين، ورغم معارك ضارية، لم تحقق روسيا أي مكاسب استراتيجية مهمة. فبعد ثلاث سنوات من الحرب الشاملة وتكلفة بشرية هائلة قُدّرت بـ200 إلى 300 ألف قتيل وجريح، لم تسيطر موسكو إلا على شريط حدودي لا يتجاوز 0.6% من مساحة أوكرانيا. بل في أغسطس 2025 كانت تسيطر على أراضٍ أقل مما كانت عليه في 2022.

الوضع يشبه حرب الخنادق في الجبهة الغربية بالحرب العالمية الأولى، حيث كان الجنرالات يضحّون بعشرات الآلاف مقابل بضع كيلومترات من الوحل. الانتصارات المزعومة في خرائط الصحف الروسية اليوم لا تخفي حقيقة الجمود العسكري.

تفوّق أوكرانيا في البحر والجو

في البحر الأسود، فقدت روسيا تفوقها البحري الذي بدا مطلقاً مع بداية الغزو. فقد دمّرت أوكرانيا الطراد “موسكفا” وسفن أخرى، واستعادت جزيرة الأفعى، مستخدمةً مزيجاً مبتكراً من الصواريخ والمسيّرات. وهكذا تراجعت البحرية الروسية إلى موانئ بعيدة عن الجبهة.

في الجو، أخفقت روسيا في فرض سيطرة جوية، خلافاً لما فعلته إسرائيل في حربها مع إيران عام 2025 حين سيطرت على الأجواء خلال يومين فقط. تكبد سلاح الجو الروسي خسائر فادحة، بينها ضربات أوكرانية مؤلمة على أسطول القاذفات الاستراتيجية. وبات اعتماد موسكو على الصواريخ والمسيّرات البعيدة المدى لقصف المدن الأوكرانية محاولة لتعويض الفشل.

أوكرانيا بلا قوات أجنبية

جدير بالذكر أن هذه الإنجازات تحققت من دون تدخل مباشر لأي قوات غربية. صحيح أن الدعم بالسلاح والمعدات من الناتو كان حاسماً، لكن أي جندي من دول الحلف لم يشارك رسمياً في القتال. وحدها كوريا الشمالية أرسلت أكثر من 10 آلاف مقاتل لدعم روسيا.

لو حصلت كييف منذ البداية على الأسلحة الثقيلة التي مُنعت عنها في 2022، لكان من المحتمل أن تحسم الحرب خلال عام واحد قبل أن تعيد موسكو بناء جيشها واقتصادها الحربي.

سلاح الدعاية الروسية

مع عجزها عن الحسم العسكري، تركّز موسكو الآن على معركة معنوية: نشر رواية أن النصر الروسي حتمي لإضعاف إرادة الغرب. غير أن الاستسلام لهذه الدعاية لن يكون كارثة على أوكرانيا وحدها، بل على الناتو الذي سيفقد مصداقيته وأفضل خط دفاع أمام التهديد الروسي المتصاعد.

اليوم، الجيش الأوكراني البالغ تعداده نحو مليون جندي معظمهم من المحاربين المخضرمين، يُعدّ أكبر وأكفأ قوة قتالية بين روسيا والعواصم الأوروبية. جيوش بولندا وألمانيا وفرنسا، رغم امتلاكها نحو 200 ألف جندي لكل منها، تفتقر إلى خبرة المعارك.

انتصار سياسي حاسم

في النهاية، مقياس النصر في الحروب ليس فقط بالمساحات المحتلة أو الخسائر المادية، بل بتحقيق الأهداف السياسية. وهنا يظهر فشل بوتين الذريع: فقد أعلن مراراً أن أوكرانيا ليست أمة حقيقية وأنها جزء من روسيا، وأراد أن يثبت للعالم أن الشعب الأوكراني سيذوب طواعية في “الأم الكبرى”.

لكن بعد ثلاث سنوات، الواقع أثبت العكس: أوكرانيا أثبتت وجودها كأمة حية ومستعدة للدفاع عن استقلالها حتى النهاية. دماء الضحايا، وصور الدمار، والذكريات المشتركة صارت مكوّنات ستغذي الوطنية الأوكرانية لأجيال قادمة.

قد يبقى مصير الحرب مفتوحاً على احتمالات عديدة، لكن النتيجة السياسية الكبرى قد حُسمت بالفعل: روسيا فشلت في محو أوكرانيا من الخريطة كأمة مستقلة. وما دام الأوكرانيون يقاتلون للحفاظ على هويتهم وحريتهم، فإن مشروع بوتين الأساسي قد انهار، مهما طال أمد المعارك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى