رويترز: الولايات المتحدة وإيران تدخلان الجولة الثالثة من المحادثات النووية
الولايات المتحدة وإيران تدخلان جولة ثالثة من محادثات الملف النووي: ما الذي ينتظرنا؟

في مشهد لم يعد يثير الدهشة لدى المتابعين، تتحرك إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب نحو اتفاق نووي جديد مع إيران، في مسار يبدو أنه يتجاوز التوقعات التقليدية لبعض الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها الكيان المحتل. هذا التحرك يأتي في وقت يتكثف فيه النشاط الدبلوماسي بين واشنطن وطهران، مدفوعًا برغبة متبادلة في تجنب التصعيد والانفتاح على مسارات تفاوضية تُبقي على المكاسب دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. غير أن القلق الإسرائيلي، أو بالأحرى “القلق الصهيوني”، يزداد وضوحًا، في ظل قناعة متنامية لدى أجهزته الأمنية بأن الاتفاق المرتقب لا يرقى إلى مستوى تحجيم التهديد النووي الإيراني. هذا التباين بين الطموحات الأميركية والسياسات الإسرائيلية يعكس عمق التحولات الجيوسياسية الجارية، ويضع المنطقة أمام معادلة أمنية معقدة ومفتوحة على احتمالات غير تقليدية.
من التمهيد السياسي إلى التفاصيل الفنية: نقلة نوعية في مسار التفاوض
بدأت المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران بخطاب سياسي غلب عليه الطابع الدبلوماسي، ركّز في بداياته على إعادة بناء الثقة وتحديد الإطار العام لأي اتفاق مرتقب. الجولة الأولى التي عُقدت في 12 أبريل مهّدت لهذا المسار من خلال طرح مبادئ عامة، وتحديد نطاق النقاشات المستقبلية. الجولة الثانية، التي جرت بعد أيام، كشفت عن استعداد الطرفين للانخراط في نقاشات أكثر عمقًا. أما الأهم فهو دخول المحادثات مرحلة جديدة تتمثّل في تشكيل فرق تقنية من الجانبين، بدأت بالفعل دراسة الحلول العملية والتفصيلية للقضايا الخلافية، مثل مستويات التخصيب، وآليات الرقابة، وإجراءات الضمان. هذا التحول من السياسي إلى التنفيذي يشير إلى جدية كبيرة، ويعني أن الجولات المقبلة لن تكون مجرد لقاءات رمزية، بل محاولات فعلية لصياغة نصوص ملزمة وتفاهمات دقيقة قد تعيد تشكيل العلاقة بين البلدين.
مؤشرات أولية: طهران تتمسك بالبنية التحتية وتعرض تخفيض التخصيب
بينما تروّج بعض الأطراف إلى أن إيران قدّمت تنازلات، تُظهر المؤشرات أن طهران لا تزال حريصة على الحفاظ على بنيتها التحتية النووية، خاصة أجهزة الطرد المركزي المتقدمة والمنشآت الواقعة تحت الأرض. ما تعرضه طهران في الواقع هو خفض نسبة تخصيب اليورانيوم من 60% إلى مستويات أقل، وهو ما يُفسَّر كتكتيك لتقليل زمن الوصول إلى مستوى “الاختراق النووي”، دون المساس بجوهر البرنامج. هذه الخطوة، وإن كانت توحي بنوع من المرونة، لا ترقى إلى مستوى المطالب الغربية بتفكيك القدرة التكنولوجية التي تُمكّن إيران من إنتاج سلاح نووي في وقت قصير. في المقابل، قد تجد إدارة ترامب في هذا العرض مدخلًا للتسويق السياسي، خاصة إذا رافق ذلك إشراف دولي صارم. وهنا تتقاطع المصالح بين الحاجة إلى تحقيق إنجاز دبلوماسي وبين تجنب مواجهة مباشرة مع طهران.

البرنامج الصاروخي الإيراني: الثغرة القديمة تتجدد
يُعد البرنامج الصاروخي الإيراني أحد أبرز الملفات الغائبة عن اتفاق 2015، والذي تعرّض آنذاك لانتقادات شديدة كونه تجاهل القدرات الصاروخية لطهران، بذريعة أنها تُستخدم لأغراض تقليدية. لكن الواقع اليوم مختلف تمامًا؛ فقد نجحت إيران في تطوير صواريخ دقيقة وبعيدة المدى، بعضها قادر نظريًا على حمل رؤوس نووية، وهو ما يرفع من خطورة المشهد. إدراج هذا الملف في الاتفاق الجديد سيُعتبر بمثابة كسر للمحرّمات السابقة، ونجاحًا دبلوماسيًا كبيرًا لترامب، مقارنة بما أنجزته إدارة أوباما. من ناحية طهران، فإن هذا الملف قد يكون من أصعب ما يمكن التفاوض بشأنه، نظرًا لاعتباره جزءًا لا يتجزأ من عقيدتها الدفاعية، ووسيلة الردع الأولى ضد التهديدات الخارجية. وبالتالي، فإن مصير الاتفاق قد يرتبط مباشرة بالكيفية التي سيتم بها التعاطي مع هذا الملف، سواء بالاحتواء، أو بالتأجيل، أو بالإغفال من جديد.
الكيان المحتل: بين ضغوط دبلوماسية وخيار الضربة الوقائية
لا يُخفي الكيان المحتل قلقه العميق من التطورات الجارية، إذ ترى أوساطه السياسية والأمنية أن أي اتفاق لا يضمن تفكيك المنشآت النووية الإيرانية، ولا يفرض قيودًا صارمة على أجهزة الطرد والصواريخ، هو تهديد مباشر لأمن “إسرائيل”. وقد كثفت تل أبيب، أو بالأحرى الكيان الصهيوني، ضغوطها على الإدارة الأميركية من خلال قنوات رسمية وغير رسمية، بهدف تعطيل أي مسار تفاوضي يُنتج اتفاقًا “ناعمًا”. ومع ذلك، تُدرك القيادات الإسرائيلية أن فرص التأثير تتراجع، ما دفع بعضها إلى التفكير مجددًا في الخيار العسكري، خاصة بعد العملية الجوية الواسعة التي نُفذت في أكتوبر الماضي واستهدفت أنظمة الدفاع الجوي الإيراني. ومع أن هذا الخيار يحمل مخاطر كبيرة، إلا أنه يبقى مطروحًا في حال تبيّن أن الاتفاق الجديد لا يرقى لمستوى الردع المطلوب. وفي المقابل، يبقى القبول باتفاق مشروط واردًا، إذا تضمن بنودًا تقنية تعيق التقدم النووي الإيراني بشكل حقيقي.
الجولة الثالثة: لحظة الحقيقة أمام الأطراف كافة
الجولة الثالثة من المحادثات النووية، المقررة في 26 أبريل، تُعد اختبارًا حقيقيًا لإرادة الأطراف في التوصل إلى حل شامل ومستدام. الولايات المتحدة أمام خيارين: إما القبول بإعادة إحياء اتفاق 2015 ببعض التحسينات الشكلية، أو الدفع نحو اتفاق أكثر صرامة يعالج ثغرات الماضي. أما إيران، فهي تتطلع إلى اتفاق يضمن تخفيف العقوبات الاقتصادية، دون المساس بجوهر برنامجها النووي والصاروخي. كل ذلك يجري في ظل معادلات إقليمية متحركة، حيث تتحضّر واشنطن لزيارة دبلوماسية حاسمة إلى السعودية، قد تعكس تحالفات جديدة. المفاوضات الحالية لا تدور فقط حول اليورانيوم وأجهزة الطرد، بل حول موازين قوة استراتيجية في المنطقة. وبالتالي، فإن نتائج الجولة الثالثة لن ترسم فقط ملامح العلاقة بين واشنطن وطهران، بل ستنعكس على مجمل التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط للسنوات المقبلة.