فايننشال تايمز: نتنياهو يشعل الداخل الإسرائيلي ويستعد لمواجهة إقليمية مع إيران

حملة إقالات غير مسبوقة تهز منظومة الأمن والقضاء
في خطوة أثارت موجة واسعة من الغضب الشعبي، أقدم نتنياهو وحكومته على إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي “الشاباك”، رونين بار، في مشهد تخلله حصار الشوارع واحتجاجات عنيفة قرب مقر الحكومة في القدس. لم تكن هذه الخطوة مجرد تصفية حسابات، بل ترافقت مع حملة تشهير منظمة نُقلت تفاصيلها لحظيًا عبر وسائل الإعلام. الإقالة جاءت في توقيت حساس، حيث كان الشاباك يحقق في علاقات مالية مشبوهة بين مكتب نتنياهو وقطر، بالتزامن مع كسر التهدئة مع حماس واستئناف العمليات في غزة. وفي ذات الأسبوع، بدأت إجراءات لإقالة المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهراف-ميارا، التي تشكل أحد أبرز الكوابح القانونية للسلطة التنفيذية. مراقبون يرون في هذه التحركات محاولة مكشوفة لإضعاف المؤسسات التي قد تعيق أجندة نتنياهو السياسية، خصوصًا في ظل استمرار محاكمته بتهم فساد. معارضة هذه القرارات لا تأتي فقط من الشارع، بل أيضًا من الرئيس إسحق هرتسوغ، الذي حذّر من تعميق الانقسام الداخلي بينما الجنود يخوضون حربًا في الجنوب.

دبلوماسية القوة: استراتيجية توسع عسكري على ثلاث جبهات
منذ مطلع عام 2024، انتهجت حكومة نتنياهو سياسة هجومية غير مسبوقة على الصعيدين الإقليمي والعسكري. فعبر عمليات عسكرية متسارعة، أعادت إسرائيل اجتياح أجزاء من قطاع غزة، واستهدفت مواقع في لبنان وسوريا ضمن استراتيجية توصف بأنها إعادة ترسيم لحدود النفوذ الإسرائيلي. في سوريا، أُرسلت قوات إلى المنطقة العازلة تحت رقابة الأمم المتحدة، وأُعلن أن 50 كلم إضافية داخل الأراضي السورية يجب أن تُضم لمنطقة “منزوعة السلاح”. وفي لبنان، أقيمت نقاط تمركز عسكري جديدة قرب الحدود، فيما تتواصل عمليات الضغط على حزب الله. هذه التحركات أثارت انتقادات دولية واسعة واتهامات بانتهاك سيادة الدول المجاورة. لكن نتنياهو يبدو غير مبالٍ، معتمدًا على دعم إدارة ترامب العائدة، والتي قدمت غطاءً سياسيًا وإمدادات عسكرية متجددة. بالنسبة لنتنياهو، فإن الانتصارات الإقليمية قد تمثّل فرصة لإعادة كتابة إرثه السياسي بعد إخفاقات 7 أكتوبر، ولو على حساب استقرار المنطقة بأسرها.

معركة على هوية الدولة: أزمة دستورية تلوح في الأفق
داخليًا، تُستأنف المواجهة التي كانت قد بدأت قبل الحرب بين الحكومة والسلطة القضائية. ففي حين يُروّج نتنياهو وحلفاؤه لهذه الإجراءات كخطوات لتقليص نفوذ “الدولة العميقة”، يرى منتقدوه أنها تدمير لمنظومة الضوابط والتوازنات داخل النظام السياسي الإسرائيلي. أبرز هذه المبادرات هو تعديل آلية تعيين قضاة المحكمة العليا، بحيث يمنح السياسيون الكلمة الفصل دون مشاركة السلطة القضائية. في الوقت ذاته، يستمر الضغط لإقالة بهراف-ميارا، رغم أن المحكمة العليا أوقفت إقالة رونين بار مؤقتًا. أوساط قانونية تحذر من أن تجاوز قرارات المحكمة سيقود إلى أزمة دستورية مكتملة الأركان، غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل. أكثر ما يثير القلق هو اتساع الشرخ المجتمعي بين التيارات الدينية والقومية من جهة، والعلمانيين والليبراليين من جهة أخرى، في ما يشبه صراعًا حول هوية الدولة نفسها: هل تكون ديمقراطية ليبرالية، أم دولة قومية ذات سلطة تنفيذية مطلقة لا تُحاسب؟

ترامب والائتلاف: حسابات البقاء السياسي تحكم الخيارات
عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض شكّلت تحولًا كبيرًا في حسابات نتنياهو. فقد قدّم ترامب دعمًا غير مشروط لإسرائيل خلال ولايته الأولى، وها هو اليوم يعزز هذا المسار بتعيينات موالية لإسرائيل وموافقته على تسليم ذخائر ثقيلة سبق أن جمّدها جو بايدن. العلاقة الشخصية بين نتنياهو وترامب تتجاوز التحالف السياسي، لتصل إلى التماهي في الخطاب والمعركة ضد القضاء والإعلام. فعلى منصة “إكس”، شبّه نتنياهو معركته ضد المؤسسة القضائية الإسرائيلية بتلك التي يخوضها ترامب ضد مؤسسات الدولة الأميركية. داخليًا، ساعد هذا التقارب على استرضاء الشركاء في الائتلاف، خصوصًا إيتمار بن غفير، الذي انسحب مؤقتًا احتجاجًا على التهدئة مع حماس، ليعود فورًا بعد استئناف الحرب. هذه التوازنات الدقيقة جعلت من الحرب استمرارًا ضروريًا لحماية الائتلاف، وليس فقط لأهداف أمنية. وفقًا لمحللين، فإن أي تهدئة أو انهيار للتحالف قد يعني نهاية نتنياهو سياسيًا، ولهذا فهو يدير ملف غزة والعدالة كملفات بقاء شخصي.

المواجهة مع إيران: إرث نتنياهو على المحك
في خضم كل هذه الأزمات، تظل إيران هي الهدف الأهم بالنسبة لنتنياهو، الذي يعتبر مشروعها النووي تهديدًا وجوديًا لإسرائيل منذ عقود. ومع تصاعد التوتر الإقليمي، يعود نتنياهو لطرح خيار توجيه ضربة عسكرية مباشرة ضد المنشآت النووية الإيرانية. غير أن حساباته تصطدم بعقبتين: أولًا، يحتاج إلى موافقة ترامب الذي يفضّل حاليًا التفاوض، وثانيًا، تدرك إسرائيل أن ضربة من دون دعم أميركي لن تؤدي إلا إلى تأجيل البرنامج النووي الإيراني مؤقتًا. لكن من وجهة نظر نتنياهو، فإن تدمير البنية الدفاعية لحزب الله، واستهداف مواقع إيرانية خلال الأشهر الماضية، فتحت “نافذة” نادرة قد لا تبقى مفتوحة طويلًا. لذلك، فإن الضربة ضد إيران، إن حدثت، لن تكون مجرد خطوة عسكرية بل وسيلة لإعادة تعريف إرث نتنياهو وتغيير صورته بعد كارثة 7 أكتوبر. كما يقول أحد مستشاريه: “إذا نجح في إيران، فلن يتذكر أحد ما حدث في غزة… بل سيُكتب اسمه في التاريخ كمن واجه الخطر الأكبر”.