الوكالات

الجارديان تحذر: إيران وأوكرانيا وغزة تكشف هشاشة أدوات ترامب في إدارة النزاعات العالمية

مأزق دبلوماسي ثلاثي يهدد مصداقية واشنطن العالمية

في لحظة من تلك اللحظات النادرة في التاريخ الدبلوماسي، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام ثلاثة نزاعات كبرى في أوكرانيا، غزة، وإيران، يتشابك فيها السياسي بالعسكري، وتتنافس فيها القوى العالمية على إعادة تشكيل النظام الدولي. وبينما كان من المفترض أن يتولى هذا العبء فريق من الخبراء الاستراتيجيين، وقع الاختيار المفاجئ على رجل الأعمال العقاري ستيف ويتكوف، أحد المقرّبين من دونالد ترامب، لقيادة الملفات الثلاثة الحساسة. هذا التحرك غير التقليدي يعكس عقلية ترامب السياسية: تجاوز الأعراف، وتكليف الموالين لا المحترفين، وفرض ما يسميه “سلام أميركا” من موقع الهيمنة لا التفاوض. لكن الرهانات باتت ثقيلة، والانقسامات داخل المعسكر الغربي تعمقت، مما يطرح تساؤلات جوهرية: هل يستطيع ويتكوف أن يحقق انتصارًا دبلوماسيًا يعيد المصداقية للولايات المتحدة؟ أم أن محاولته لترويض ثلاث أزمات كبرى في آنٍ واحد ستؤدي إلى انتكاسة كبرى في صورة القوة الأميركية عالميًا؟ حسب ما جاء فى صحيفة الجارديان البريطانية 

 تعقيدات ثلاثية متشابكة: مسارات منفصلة على خارطة واحدة


رغم محاولة إدارة ترامب الفصل بين ملفات أوكرانيا وغزة وإيران، إلا أن الواقع الجيوسياسي يفرض تشابكًا متزايدًا يجعل من فصل هذه المسارات أمرًا نظريًا فقط. فما يحدث في مسقط له انعكاسات في موسكو، وما يُقرَّر في طهران يتردد صداه في غزة. تتشابك المصالح وتتقاطع الخطابات في مواجهة مقاربة ترامب التي تعتمد على الضغط الأحادي، دون إشراك شركاء تقليديين مثل أوروبا. ومما يزيد من صعوبة المهمة، أن وتيرة الأحداث تسبق التقديرات الأميركية؛ فبينما ينشغل ويتكوف بترتيب لقاءاته المتعددة، تواصل إيران تطوير برنامجها النووي، وتستأنف إسرائيل قصفها لغزة، وتراوغ روسيا في مسألة وقف إطلاق النار. هذا التداخل لا يجعل فقط النجاح مستبعدًا، بل يُعرِّي أيضًا منطق واشنطن في إدارة الأزمات على أساس الزعامة المطلقة بدلًا من التحالفات الاستراتيجية.

صحيفة همشهري الإيرانية، بعنوان “رسالة قوة من مسقط”، وصورة لويتكوف، في كشك بطهران هذا الشهر. تصوير: عابدين طاهر كناره/وكالة الأنباء الأوروبية.

 ويتكوف: مبعوث عقاري في ميدان النيران السياسية


ستيف ويتكوف لم يُعرف من قبل بأي سجل دبلوماسي أو اهتمام بالعلاقات الدولية، لكنه أصبح اليوم واجهة ثلاث ملفات هي الأخطر عالميًا. بالنسبة للرئيس ترامب، هذه ليست عقبة بل ميزة، فويتكوف يتمتع بالولاء التام ويجيد فك شيفرات الرئيس أكثر من فهم تعقيدات الملف النووي الإيراني. ويعترف بنفسه أنه كان يسعى لتقليد ترامب في نيويورك حدّ التماهي. لكن الدبلوماسية ليست فقط عن الفهم الشخصي، بل عن التاريخ والخبرة والبنية المؤسسية، وكل ذلك يفتقده ويتكوف مقارنة بنظرائه من طهران إلى موسكو. غياب الكفاءة و”ذاكرة الدولة” يتركه مكشوفًا أمام مفاوضين مثل وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي، الذي شارك في مفاوضات 2015، أو سفير روسيا في واشنطن ألكسندر دارشييف، بخبرته الممتدة ٣٣ عامًا.

مظاهرة في بيشاور، باكستان، تضامنًا مع الشعب الفلسطيني. تصوير: أرشد أرباب/وكالة حماية البيئة

 انهيار الخبرة الدبلوماسية الأميركية: الكلفة الحقيقية لولاء ترامب


تتجلى أزمة الإدارة الأميركية في غياب الخبراء واستنزاف كوادر وزارة الخارجية بفعل تقليص الميزانية، مما جعل ويتكوف يخوض المفاوضات بعُزلة استراتيجية. مسؤولون سابقون مثل ريتشارد نيفيو يرون في ذلك ضربة وطنية للأمن القومي، إذ خسرت البلاد جيلًا كاملًا من الدبلوماسيين المحترفين. فبينما تفاوض إيران بفريق متمرّس، وتدفع روسيا بكوادر سيادية رفيعة، تعتمد واشنطن على مساعدات محدودة من أشخاص جدد في المناصب، كصوناتا كولتر التي تتعامل مع روسيا من منظور يختلف كليًا عن ترامب، ما يخلق تناقضًا في اللغة والهدف الأميركيين. هذا التفاوت لا يؤدي فقط إلى فقدان السيطرة على المفاوضات، بل يرسل رسالة للعالم بأن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك أدوات قوتها التقليدية: الخبرة والدبلوماسية المؤسسية.

إيمانويل ماكرون، الذي كان يُعتبر سابقًا “مُناصر ترامب” في أوروبا، خلال اجتماع دبلوماسي حول أوكرانيا في باريس الأسبوع الماضي. الصورة: لودوفيك مارين/وكالة حماية البيئة

 غزة والرهان السياسي: مكافأة إسرائيل وعزل أوروبا


بينما يحاول ويتكوف إظهار صرامة في التعامل مع نتنياهو، إلا أن نتائج تحركاته جاءت عكسية. في البداية، نُسب له فضل إقناع إسرائيل بوقف إطلاق نار مؤقت، لكن سرعان ما خرق نتنياهو الاتفاق، واستأنف الهجمات. الأسوأ، أن الإدارة الأميركية لم تُظهر أي إرادة للضغط على تل أبيب، رغم الحصار الخانق على غزة ورفض دخول المساعدات الإنسانية. الصمت الأميركي زاد من حدة التوتر مع أوروبا، التي وصفت الحصار بأنه “غير مقبول”، بينما دعا ماكرون إلى الاعتراف بدولة فلسطين. في المقابل، تبقى إدارة ترامب صامتة، رغم وعود “السلام التاريخي”، مما يعكس بوضوح أن كل ما يهم ترامب هو دعم نتنياهو سياسيًا، حتى لو جاء ذلك على حساب استقرار المنطقة أو علاقات واشنطن بالحلفاء الأوروبيين.

ترامب وماركو روبيو وأعضاء آخرون في إدارة الرئيس في محادثات مع يوناس غار ستور، رئيس وزراء النرويج (غير مصور)، في المكتب البيضاوي هذا الأسبوع. الصورة: أباكا/ريكس/شاترستوك

 الملف الإيراني: فرصة تاريخية أم تفريط استراتيجي؟


رغم أن طهران أبدت استعدادًا للتفاوض من أجل رفع العقوبات، إلا أن ويتكوف اختار التركيز فقط على منع إيران من تخصيب اليورانيوم داخليًا، متجاهلًا ملفات حساسة كدعمها لحماس أو تزويد روسيا بطائرات مسيّرة. هذا الإغفال أغضب إسرائيل، التي طالبت من خلال لقاءات في باريس بروابط أوضح بين الملف النووي الإيراني وسلوك إيران الإقليمي. رفض ويتكوف توسيع جدول الأعمال يعكس إصرار إدارة ترامب على تحقيق “إنجاز سريع”، حتى لو جاء منقوصًا. وقد يؤدي ذلك إلى تكرار أخطاء اتفاق 2015، حين رُفعت العقوبات دون معالجة البعد الإقليمي للسياسة الإيرانية. والمفارقة أن روسيا قد تُعيد لعب دور مستودع اليورانيوم الإيراني، كما فعلت سابقًا، ما يجعل ترامب يعزز دور خصمه الجيوسياسي في الشرق الأوسط.

اقترح ويتكوف تسويات لتمديد وقف إطلاق النار في غزة، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي رفضها. تصوير: إيفلين هوكشتاين/رويترز

 أوكرانيا: خطة سلام منحازة تثير استياء الحلفاء


رغم محاولات كييف تقديم تنازلات لدفع موسكو نحو وقف إطلاق النار، اتجه ويتكوف فجأة لطرح خطة سلام “منحازة للعدو”، وفق تعبير معهد مونتاني الفرنسي. فبدلًا من الضغط على بوتين، يبدو أن إدارة ترامب تقدم له ما يريده مسبقًا، حتى قبل بدء المفاوضات الرسمية. الخطة أغفلت أيضًا دور القوات الأوروبية في مراقبة وقف إطلاق النار، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية البولندي كضمان أساسي لأي تسوية مع الكرملين. الصدمة الأوروبية لم تتبلور بعد في مواقف علنية، لغياب البدائل، لكن الاستياء يتصاعد، لا سيما مع نبرة ترامب التي تعيد رسم العلاقة مع روسيا على أساس المصالح المشتركة لا التوازن الجيوسياسي. بذلك، يبدو أن الملف الأوكراني قد يتحول من ساحة صراع إلى نقطة بداية لـ”تفاهم كبير” أميركي-روسي، على حساب أمن أوروبا.

أوضح ترامب بوضوح تام أنه يعتقد أن أوكرانيا “يجب أن تكون جزءًا من روسيا”، وفقًا لمستشارته السابقة فيونا هيل في كتاب جديد. تصوير: أليكس وونغ/صور جيتي

 تحولات خطيرة في النظام الدولي: التعاون مع الخصوم بدل ردعهم


تصريحات ترامب حول التعاون مع روسيا في مجالات الغاز والذكاء الاصطناعي تفتح الباب لنموذج عالمي جديد، قوامه ليس “الردع” بل “التواطؤ الاستراتيجي”. فبدلًا من الضغط على بوتين أو تقييد إيران، تسعى إدارة ترامب إلى بناء توازن مصالح يشمل حتى خصومها التقليديين. هذا التحول يُنذر بتحول في العقيدة السياسية الأميركية من القيادة عبر الحلفاء إلى إدارة العالم بالشراكة مع الأقوياء، وتهميش القضايا الحقوقية والإنسانية، كما هو الحال في غزة. الرؤية التي يعبر عنها ويتكوف، ببساطتها، تعكس رغبة ترامب في إدارة عالم بلا قيود، حيث المصالح تتفوق على المبادئ. لكنها رؤية محفوفة بالمخاطر، لأنها تهدد بتفكيك التحالفات الغربية، وتعيد تعريف من هو الصديق ومن هو العدو في السياسة الدولية.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي خارجي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. يتمتع بخبرة واسعة في التغطية والتحليل، وعمل في مواقع وصحف محلية ودولية. شغل منصب المدير التنفيذي لعدة منصات إخبارية، منها "أخباري24"، "بترونيوز"، و"الفارمانيوز"، حيث قاد فرق العمل وطور المحتوى بما يواكب التغيرات السريعة في المشهد الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى