الوكالات

دونالد ترامب، احذر: هكذا يبدو النهوض الليبرالي العالمي

عودة الليبرالية الدولية: مقاومة عالمية في طور التشكل

في ظل تصاعد قوى الاستبداد خارج نطاق العالم الغربي، تواجه المبادئ الليبرالية تحديات غير مسبوقة، حيث أصبحت الولايات المتحدة، المعقل التقليدي للحرية، تشهد هي نفسها هجومًا على قيمها الأساسية. لم يعد الدفاع عن هذه المبادئ أمرًا محصورًا في حدود دولة أو قارة واحدة؛ بل أصبح من الضروري إقامة تحالف عالمي موحد يقاوم المد القومي المتطرف. الانتخابات الكندية المزمع إجراؤها هذا الأسبوع تمثل نقطة انطلاق لهذا الجهد الجماعي، الذي يهدف إلى تشكيل جبهة قوية لوقف انتشار الفكر المعادي للديمقراطية.

لطالما ارتكزت الليبرالية على مفهوم أساسي: أن الحرية لا يمكن أن تزدهر إلا عندما تُوزع السلطة وتُخضع للمساءلة المستمرة. في مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي تمارس سلطة قسرية من واشنطن إلى موسكو وبكين، تزداد الحاجة إلى إنشاء بُنى مضادة تعيد توازن القوى. عبر العصور، كانت الصحافة الحرة، سيادة القانون، النقابات، المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية من الركائز التي حدت من طموحات الطغاة. اليوم، نحن مدعوون لإعادة إحياء هذا الإرث، مع تكامل أدوات ووسائل جديدة لمواجهة التحديات العصرية بشكل أكثر فاعلية.

أزمة الليبرالية الداخلية: سياسات أخطأت الطريق

معركتنا لا تقتصر على مواجهة الخصوم الخارجيين؛ إذ يتحتم علينا أيضاً التصدي للأخطاء التي أفرزتها السياسات الليبرالية ذاتها خلال العقود الماضية. فالنيوليبرالية الجامحة، التي غذّاها رأسمال معولم ومؤسسات مالية مفترسة، أسهمت في إنتاج مستويات من اللامساواة لم يشهدها العالم منذ قرن. بالتوازي، دفعت سياسات الهوية، رغم نواياها التصحيحية، إلى شعور شرائح واسعة من المجتمع  لا سيما الرجال البيض من الطبقة العاملة  بالتجاهل الثقافي والاقتصادي.

بهذا، خانت الليبرالية وعدها الأساسي كما عبر عنه الفيلسوف رونالد دوركين: “الاحترام والاهتمام المتساويان للجميع”. الأخطر من ذلك، أن تآكل الحدود بين الثروة والسلطة السياسية حول الديمقراطية الأميركية إلى شبه أوليغارشية، حيث يدعم أثرياء مثل إيلون ماسك وجيف بيزوس ومارك زوكربيرغ صعود دونالد ترامب، ويستغلون نفوذهم الإعلامي لإقناع الطبقات الشعبية بأن معاناتها سببها “الآخر”، لا الأوليغاركية المالية المتحكمة فعليًا بمصيرهم.

وحدة الليبراليين: الطريق إلى صد الموجة الشعبوية

في ضوء هذا الواقع المعقد، لا بد من خوض معركة مزدوجة: ضد أعداء الحرية التقليديين، وضد الموروثات السلبية التي خلّفتها السياسات الليبرالية. إن التشرذم هو الطريق الأكيد للهزيمة؛ أما النجاح فلا يتحقق إلا عبر تحالفات دولية قوية تجمع بين الدول الديمقراطية والمجتمعات المدنية والمواطنين الأحرار.

من الاتحاد الأوروبي  أكبر مشروع ليبرالي دولي معاصر  إلى ديمقراطيات راسخة مثل بريطانيا وكندا واليابان وأستراليا، يجب توظيف كل الأدوات الممكنة للدفاع عن قيم الحرية، بما في ذلك تعزيز التجارة الحرة، وإعادة هيكلة البنى الرقمية، وتطوير الصناعات الدفاعية المحلية كأدوات مزدوجة للدفاع الاقتصادي والعسكري.

الاقتصاد الرقمي: نقطة ضعف خطيرة تحتاج لمعالجة عاجلة

أحد أخطر مكامن الضعف في العالم الليبرالي اليوم يكمن في الاعتماد المفرط على البنية الرقمية الأميركية. تخيلوا سيناريو تتوقف فيه خدمات آبل، أمازون، غوغل، فيسبوك، إنستغرام، واتساب، وتويتر (إكس-تر) دفعة واحدة: الفراغ سيكون هائلًا. هذه الهشاشة تتطلب إنشاء فضاءات رقمية سيادية، تضمن استقلالية المجال العام الرقمي الذي يعد العمود الفقري لأي ديمقراطية حديثة.

ينبغي للاتحاد الأوروبي، عبر تسخير قوته التنظيمية، أن يقود هذا التوجه بمشاركة حلفائه في العالم الليبرالي. غير أن المعركة لا تقتصر على التنظيم والضرائب، بل تشمل أيضاً إعادة بناء النظم الرقمية على أسس جديدة تحمي الحرية وتكرس التعددية.

أدوات المقاومة المدنية: من الجامعات إلى حملات المقاطعة

لا يمكن ترك مواجهة هذا المد الاستبدادي على عاتق الحكومات فقط. فالمبادرات المدنية قادرة على إحداث فرق ملموس. لم نشهد حتى الآن مثلاً حملة تضامن عالمية واسعة من الجامعات الليبرالية مع نظيراتها الأميركية المحاصرة — وهو تقصير ينبغي تداركه فوراً.

كذلك، يمكن لحملات المقاطعة الاستهلاكية أن توجه رسائل قوية. فالمقاطعة العفوية لمنتجات تسلا دفعت إيلون ماسك إلى التراجع عن بعض مواقفه السياسية المثيرة للجدل. وفي كندا، يساعد تطبيق “BuyBeaver” المستهلكين على تجنب شراء المنتجات الأميركية، ما يمثل نموذجاً قابلاً للتوسيع دوليًا.

قواعد الاشتباك: سلاح الليبراليين هو النزاهة والحقائق

معركة الليبراليين مع الشعبويين لا تقتصر على الأفكار، بل تشمل أيضاً أساليب المواجهة. حين يهاجم القوميون بالكذب والتحريض، يجب أن يتمسك الليبراليون بالصدق والهدوء الأخلاقي. فالتفوق في المعركة الأخلاقية لا يقل أهمية عن الانتصار السياسي.

الدفاع عن أوكرانيا: اختبار حاسم للالتزام الليبرالي

في السياسة الدولية، يبقى إنقاذ أوكرانيا أولوية لا تحتمل التأجيل. تخلي ترامب عن دعم كييف  إلى حد الضغط عليها للتنازل عن القرم — يمثل تهديداً مباشراً لأسس النظام الليبرالي العالمي. الدفاع عن أوكرانيا ليس مجرد قضية إقليمية، بل معركة على المبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي ذاته.

ما سينبثق عن هذه العاصفة السياسية لن يكون استعادة لما كان بين عامي 1945 و2025. سيشهد العالم ولادة نظام ليبرالي جديد، متعدد الأقطاب، لا يعتمد في استقراره على الهيمنة الأميركية وحدها، بل على شبكة أوسع من القوى الليبرالية المتحالفة.

كندا: من الهامش إلى الخطوط الأمامية

حتى الجغرافيا السياسية تخضع لتحول جذري. لم تعد كندا، الدولة الليبرالية الهادئة، بعيدة عن صخب النزاعات العالمية. اليوم، تجد نفسها في الخطوط الأمامية، إلى جانب أوكرانيا، في التصدي للهجوم الترامبي على النظام الليبرالي.

وفي عالم تتسارع فيه تداعيات ذوبان القطب الشمالي، تتحول كندا إلى لاعب محوري في المعادلات الدولية الجديدة. لحسن الحظ، يبدو أن كندا تتجه نحو حكومة لا تكتفي بحمل اسم “الليبرالية”، بل تمارسه فعلياً وبحزم.

قبل ربع قرن، حين تعرضت الولايات المتحدة لهجمات 11 سبتمبر، أعلن رئيس تحرير صحيفة لوموند الفرنسي: “كلنا أميركيون”. واليوم، آن الأوان لكل أصدقاء الحرية أن يعلنوا:
“كلنا كنديون!”

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي خارجي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. يتمتع بخبرة واسعة في التغطية والتحليل، وعمل في مواقع وصحف محلية ودولية. شغل منصب المدير التنفيذي لعدة منصات إخبارية، منها "أخباري24"، "بترونيوز"، و"الفارمانيوز"، حيث قاد فرق العمل وطور المحتوى بما يواكب التغيرات السريعة في المشهد الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى