حين تصبح النقود الورقية مقاومة صامتة: لماذا لا يزال البعض متمسكًا بالكاش؟

رغم كل ما يقال عن قرب نهاية العملة الورقية، فإنني أفتح محفظتي فأجد فيها ورقة نقدية متواضعة خمسة دولارات قديمة ومجعّدة، من بقايا إجازة خارجية نسيت أن أستبدلها. لكنها، ولسبب ما، أصبحت المبلغ النقدي الوحيد الذي أحمله باستمرار، في زمن باتت فيه العملة الورقية البريطانية شبه منسية.
في قريتنا، كان الحانة لسنوات لا يقبل سوى النقود الورقية، ربما كرغبة ضمنية في إبعاد الزبائن من خارج القرية (قصة طويلة وغريبة). وحتى الآن، أحتفظ ببعض العملات المعدنية في السيارة فقط لعربات التسوق. استخدام المال الملموس بات يبدو غريبًا أو حتى مريبًا في معظم الأماكن، إذ يزداد عدد المقاهي والمطاعم التي ترفض الدفع النقدي لتجنب عناء الإيداع البنكي. وفقًا لاستطلاع أجرته شبكة ATM Link، فإن نصفنا تقريبًا زار مكانًا مؤخرًا لا يقبل النقد، أو يُثني ضده.
النقد ما زال شريان حياة للفئات الأضعف
قد يتساءل البعض: ما المشكلة ما دام الجميع أصبح يلوّح ببطاقته البنكية للدفع؟
الإجابة جاءت هذا الأسبوع من تقرير لجنة الخزانة في مجلس العموم البريطاني، الذي أكد أن الفئات الأكثر هشاشة لا تزال تعتمد على النقد: كبار السن الذين يخشون الاحتيال، أو الذين يجدون صعوبة في التعامل مع التطبيقات الرقمية، والمحرومون من الحسابات البنكية بسبب سوء تاريخهم الائتماني، وأشخاص ذوو إعاقات ذهنية يفهمون النقد أكثر من الأرقام المجردة. بل إن بعض النساء يحتفظن بما يُعرف بـ”نقود الهروب” من شركائهن المتحكمين.
من أكثر القصص قسوة تلك التي رواها أحد النواب عن امرأة تعرضت للإساءة، ومنعها شريكها من دفع مصروفات المدرسة إلكترونيًا لأطفالهما. ولأن المدرسة لا تقبل الدفع نقدًا، لم تجد طريقة لتجاوز تحكمه المالي.
حين تتوقف الكهرباء.. لا يبقى سوى النقود
وهناك بُعد آخر لهذا الجدل، تكشفه التجربة الإسبانية الأخيرة. فقد أدى انقطاع ضخم في التيار الكهربائي إلى توقف المعاملات الرقمية، لكن النقد بقي الملاذ الأخير. السويد، التي كانت تتجه نحو مجتمع بلا نقد، تراجعت عن هذا المسار العام الماضي، خوفًا من أن يجعلها أكثر عرضة للهجمات الإلكترونية أو التخريب المنظم.
وفي خلفية هذه المخاوف التقنية، يبرز هاجس سياسي غير مريح: ماذا لو تحوّلت الدولة، في سيناريوهات مستقبلية قاتمة، إلى كيان قمعي يستطيع تجميد أموال المواطنين أو مراقبة تحركاتهم المالية؟ في مثل هذه الأوضاع، يكون امتلاكك لمال ورقي في درج المكتب نوعًا من الأمان غير المعلن.
من النقاد إلى المهووسين بنظرية المؤامرة.. الجميع يتمسكون بالنقد
من المفارقات أن الدفاع عن النقد يوحّد أطيافًا متناقضة: محافظون يرفضون التغيير السريع، مناصرو حزب “ريفرم” اليميني الذين وعدوا في برنامجهم الانتخابي لعام 2024 بمنع تحول بريطانيا إلى مجتمع غير نقدي، أصحاب المتاجر الصغيرة المتضررون من رسوم البطاقات البنكية، وصولاً إلى جماعات يسارية ومنظمات مكافحة الفقر التي ترى في النقد وسيلة لبقاء الأسر محدودة الدخل على قيد الحياة.
بل وحتى جيل زد، المعروف بولعه بالحياة الرقمية، دخل على الخط عبر ما يُعرف بظاهرة “حشو المغلفات”، وهي ممارسة منتشرة على تيك توك وإنستغرام، تقوم على تخصيص مبالغ نقدية أسبوعية داخل مغلفات محددة لكل غرض. وعندما تنفد المغلفات، يتوقف الإنفاق تلقائيًا. ملايين المتابعين ينجذبون إلى مقاطع الفيديو التي تُظهر أوراقًا نقدية مرتبة بدقة داخل حافظات بألوان الباستيل، في مشهد يعكس حاجة نفسية للنظام والسيطرة، ربما تشبه جدتك التي كانت تخبئ مصروف الأسبوع داخل علبة بسكويت.
لكن في النهاية، كما هو الحال مع الصحف الورقية التي توقع كثيرون زوالها، فإن التحول الكامل إلى الرقمنة قد يكون حتميًا، إلا أن التخلص من شيء مادي، يمكن لمسه والاعتماد عليه، يستغرق وقتًا أطول مما يظن الجميع.
البنوك تحلم بعالم بلا فروع.. لكن بأي ثمن؟
من الواضح أن البنوك تحبذ مجتمعًا بلا نقد، فهو أرخص وأبسط لها. إذ كلما قل تداول العملات الورقية، أصبح إغلاق الفروع أسهل، والتحول إلى خدمات رقمية كاملة أكثر ربحًا. بدلاً من موظفين فعليين في الفروع، يضطر العملاء للتواصل مع روبوتات دردشة أو مراكز اتصال بعيدة، في وقت تخلو فيه الشوارع من أي شيء سوى متاجر السجائر الإلكترونية.
ولكن، إن كانت العقود الماضية قد علمتنا شيئًا، فهو ألا نسلم بالضرورة الاجتماعية لأي شيء تريده البنوك. ولهذا السبب، سأستمر—للمستقبل القريب على الأقل—في التمسك بما تبقى من عملة ورقية، حتى لو أصبحت بلا قيمة تقريبًا.