الاقتصاد

النرويج تراهن على مستقبل الطاقة في أوروبا عبر مشروع “نورذرن لايتس”

في خضم التحوّلات الجذرية التي يشهدها مشهد الطاقة العالمي، تسعى النرويج إلى إعادة تعريف دورها في الاقتصاد الأوروبي عبر مشروع طموح يحمل اسم “نورذرن لايتس”، الذي يُعد من أبرز مشاريع احتجاز الكربون وتخزينه (CCS) في العالم. على سواحلها الغربية، وفي قلب طبيعتها الفريدة، تنشئ أوسلو ما يشبه “مكب نفايات” صناعي للانبعاثات الكربونية القادمة من صناعات أوروبية كثيفة التلوّث، مثل الإسمنت والأسمدة، حيث يتم تجميع ثاني أكسيد الكربون السائل ونقله إلى باطن بحر الشمال.

هذا المشروع، الذي يحظى بدعم حكومي كبير وتحالف من عمالقة الطاقة مثل شل وإكوينور وتوتال إنرجي، يضع النرويج في موقع ريادي جديد في معادلة المناخ العالمية، ليس فقط كمنتج للنفط، بل كمقدّم خدمة تخزين كربوني مقابل رسوم. فهل تنجح هذه الرؤية في إنعاش اقتصاد ما بعد النفط؟ وهل تكون النرويج النموذج الذي يُحتذى به أوروبياً؟

من استخراج النفط إلى دفن الكربون: تحوّل استراتيجي في رؤية أوسلو

لطالما عُرفت النرويج كواحدة من أكبر منتجي النفط والغاز في أوروبا، لكن إدراكها التدريجي لاحتمال انحدار العائدات البترولية دفعها لتوظيف خبراتها الهندسية وموقعها الجيولوجي الفريد لخدمة المستقبل الأخضر. مشروع “نورذرن لايتس” يُجسّد هذا التحوّل بوضوح. فبدلاً من استخراج الوقود الأحفوري، تسعى البلاد اليوم إلى ضخ انبعاثات الكربون الصناعية في آبار الغاز المستنفدة تحت بحر الشمال، على عمق يزيد عن 8,000 قدم.

المشروع لا يقتصر على التخلص من انبعاثات محلية، بل يعتمد على استراتيجية “النقل-والتخزين” العابرة للحدود، حيث تُجمع الانبعاثات من دول أوروبية مثل ألمانيا وهولندا والسويد، وتُنقل عبر سفن ضخمة إلى محطة أويغاردن ثم تُدفن في باطن الأرض. هذا الدور الجديد يُعيد تشكيل علاقة النرويج مع جيرانها: من مصدّر للوقود إلى مزوّد لخدمة مناخية حيوية في عصر الكربون المكلف.

اقتصاد الكربون الجديد: بين الربحية والاستدامة

رغم الطابع البيئي للمشروع، إلا أن الأبعاد الاقتصادية حاضرة بقوة. فشركات مثل Heidelberg Materials، التي تملك مصنع إسمنت في “بريفك”، تعتبر زبائن رئيسيين للمشروع، تدفع رسوماً تصل إلى 60 دولاراً للطن الواحد من ثاني أكسيد الكربون. هذا الرقم أقل من ضريبة الكربون الأوروبية التي تُقدّر بـ70 يورو للطن، ما يجعل “نورذرن لايتس” خياراً مغرياً مالياً أيضاً.

ومع أن كلفة احتجاز الكربون تصل في بعض الحالات إلى 400 دولار للطن حسب نوع المنشأة، إلا أن الدعم الحكومي السخي، البالغ 3.3 مليار دولار، يغطّي ثلثي التكلفة التشغيلية للمشروع في عقده الأول. بحسب محللين في مؤسسة “وود ماكنزي”، فإن أرباح الشركاء في المشروع مثل شل وإكوينور قد تبلغ 10%، وهو رقم جيد في قطاع ناشئ، لكنه يعتمد بشدة على استمرار الدعم العام والإقبال الصناعي الأوروبي.

التحديات التقنية واللوجستية: السفن، الأنابيب، والطلب المتنامي

التنفيذ العملي للمشروع يواجه تحديات لوجستية وتقنية ضخمة. فإلى جانب إنشاء المحطة البرية ومرافق التخزين، يتطلب المشروع أسطولاً من الناقلات المتخصصة لنقل ثاني أكسيد الكربون السائل. أول سفينتين وصلتا من الصين، مزوّدتان بتقنيات متطورة تشمل أشرعة دوارة لتقليل استهلاك الوقود، وسيتم تسليم سفينتين إضافيتين قريباً.

واحدة من هذه السفن، بقيادة القبطان النرويجي هروار سكوفتيبي، ستنقل الكربون من محطات توليد الطاقة التابعة لشركة Orsted الدنماركية. كل هذه البنية التحتية تهدف لإنشاء شبكة إقليمية متكاملة، قادرة على خدمة العشرات من المصانع الأوروبية في المستقبل. ومع ذلك، يبقى السؤال الكبير: هل تستطيع هذه المنظومة الوليدة تلبية الطلب المتزايد مع الحفاظ على جدواها الاقتصادية دون دعم دائم من الحكومات؟

تحولات في السوق الأوروبية وقلق من ارتفاع الأسعار

واحدة من أبرز التحديات التي تواجه هذا النموذج هي التكاليف النهائية للمنتجات المعالجة بيئياً. على سبيل المثال، شركة Heidelberg تقدّر أن سعر الإسمنت منخفض الكربون الذي تنتجه – والمسمى “Evozero” – سيكون ثلاثة أضعاف سعر الإسمنت التقليدي رغم تطابق الخصائص الفيزيائية. هذا يضع ضغوطاً على المطورين العقاريين وشركات البناء، التي قد تُجبر على تمرير هذه التكاليف للمستهلك النهائي.

إضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد على الدعم الحكومي الأوروبي يعيد فتح النقاش حول “عدالة التحوّل الأخضر”، إذ أن الصناعات الكبرى قد تُمنح حوافز غير متاحة للشركات الصغيرة أو الأسواق النامية. في المقابل، ترى الحكومة النرويجية أن هذا الدعم هو بمثابة استثمار في “بنية تحتية مناخية”، تهدف إلى تحفيز السوق وخلق اقتصاد دائري جديد يربط بين التلوث والمعالجة المستدامة.

ختام: هل تنجح النرويج في أن تكون “محرقة الكربون” لأوروبا؟

إن مشروع “نورذرن لايتس” ليس مجرد محطة لاحتجاز الكربون، بل هو تجربة استراتيجية لاختبار نموذج جديد في الاقتصاد المناخي العالمي. من خلال توظيف إرثها النفطي، وشبكاتها الجيولوجية الفريدة، وتحالفاتها الصناعية، تحاول النرويج بناء نموذج تصديري فريد من نوعه: تصدير خدمة بيئية.

ومع أن التحديات لا تزال قائمة، من ارتفاع التكاليف إلى الشكوك السياسية والبيروقراطية الأوروبية، فإن المشروع يقدّم درساً مهماً: التحوّل الأخضر لا ينجح فقط بالشعارات، بل يحتاج إلى قرارات جريئة، شراكات طويلة الأجل، وإرادة حكومية واستثمارية. وإذا كُتب لهذا النموذج النجاح، فقد تُصبح النرويج خلال عقود قليلة، ليس فقط دولة خضراء، بل مركزًا لوجستيًا لمكافحة الكربون في قلب القارة العجوز.

اقرأ أيضاً:

ترامب يعلن الحرب على علوم المناخ: تداعيات مذهلة تهدد البشرية

يارا حمادة

يارا حمادة صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى