تقارير التسلح

بولندا تتخلى عن حلمها المدرع: لماذا فضّلت وارسو الدبابة الكورية على تطوير دبابتها الوطنية؟

في خطوة تعكس تغيرًا جذريًا في العقيدة الدفاعية البولندية، وقّعت الحكومة عقدًا جديدًا مع كوريا الجنوبية لتوريد وتجميع دبابات القتال الرئيسية من طراز K2 وK2PL، يتم تنفيذها محليًا داخل مصنع “بومار-وابيندي” في مدينة غليفيتسه، تحت إشراف مجموعة الصناعات الدفاعية البولندية الحكومية PGZ. هذا القرار لم يكن مجرد خطوة تقنية بحتة، بل كان تتويجًا لمسار طويل من التخبطات، والمحاولات غير المكتملة، وضغوط السياسة والاقتصاد، والخيبات الصناعية التي دفعت وارسو في النهاية للتخلي عن طموح بناء دبابة بولندية بالكامل.

بدايات واعدة… انتهت في الأدراج

وفقًا للخبير العسكري والصحفي المتخصص بارتومي كوتشارسكي، كانت لدى بولندا رؤية واضحة في تسعينيات القرن الماضي لتطوير دبابة محلية متعددة الأجيال، تنطلق من تطوير دبابة T-72 السوفيتية الأصل. السلسلة كان من المفترض أن تبدأ بـ PT-91 “تفاردي”، ثم PT-94، وPT-97 المزودة ببرج ملحوم، وأخيرًا PT-2000 التي كانت ستمثل دبابة من الجيل الثالث تستخدم مكونات غربية. إلا أن هذا المشروع الواعد توقف مبكرًا، ليس بسبب ضعف القدرات التقنية، بل نتيجة غياب التمويل السياسي والاقتصادي الكافي. فتكاليف تطوير PT-2000 كانت تتطلب نحو 400 مليون دولار، مع تكلفة وحدة واحدة تتراوح بين 4 و5 ملايين دولار — رقم كان يعتبر خياليًا لبولندا التي كانت تشتري في الوقت نفسه ناقلات جند “روسوماك” ومقاتلات F-16 وتلتزم بمهام قتالية في أفغانستان والعراق.

صورة ملفية لدبابة أندرس من إنتاج شركة OBRUM

مشاريع فاشلة ومعارك بيروقراطية

تتابعت بعد ذلك المحاولات الخجولة لتطوير دبابات بولندية متوسطة مثل مشروع “أنديرس” ثم “PL-01” والمشروع الأكثر طموحًا “غيبّارد”. لكن جميع هذه المحاولات اصطدمت بجدار البيروقراطية ونقص الإرادة السياسية، وهو ما وصفه كوتشارسكي بأنه “غياب في الخيال والوطنية أكثر من كونه نقصًا في المال”. وأضاف أن غياب التوافق بين المؤسسات العسكرية والصناعية البولندية، بل وحتى وجود عداء من بعض ضباط الجيش تجاه القطاع الصناعي الدفاعي المحلي، ساهم في إجهاض أي مشروع بولندي مستقل في هذا المجال.

صورة ملفية لدبابة K2 بواسطة ماثيو أ. فوستر

الحاجة إلى الاستعانة بالخارج

مع تسارع التطورات على الجبهة الأوكرانية، وجدت بولندا نفسها مجبرة على تسليم مئات الدبابات القديمة إلى كييف، ما خلق فجوة فورية في قدرات الجيش البولندي. وتحت ضغط الوقت، وقّعت وارسو في عام 2022 عقودًا عاجلة مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لشراء دبابات “أبرامز” و”K2″، وهو ما فسّره كوتشارسكي بأنه كان ضرورة عسكرية ملحة لتعويض الفاقد، رغم أن سياق العقود كان يعاني من سوء تنسيق وغياب استراتيجية واضحة.

صورة ملفية للدبابة ليوبارد 2 التقطها تيموثي هاملين

لماذا K2 وليست “ليوبارد” أو “أبرامز” فقط؟

برغم الانتقادات الموجهة لدبابة K2 بأنها مكلفة أو ثقيلة، يؤكد كوتشارسكي أن هذا الادعاء غير دقيق. فحتى النسخة البولندية K2PL ستكون أخف بنحو 10 أطنان من دبابات “أبرامز M1A2 SEPv3” أو “ليوبارد 2A8” الألمانية. لكن الأهم من الوزن هو عامل التوافر والسرعة: شركة “هيونداي روتيم” الكورية قدمت عرضًا جذابًا يشمل توريد عاجل وتكنولوجيا قابلة للنقل إلى بولندا، مع خط إنتاج مخصص داخل البلاد.

اللوجستيات تلعب دورًا حاسمًا

بعيدًا عن السياسة، هناك أسباب عملية وراء الابتعاد عن دبابات T-72 القديمة. فمحركات W-46 لم تعد تُنتج في الغرب، وتوريدها من دول مثل الهند أو البوسنة أصبح محفوفًا بالمخاطر. وكذلك الأمر بالنسبة للذخيرة من عيار 125 ملم، والتي أصبحت شبه حكر على روسيا. بالمقابل، توفر دبابة K2 فرصة للاندماج في منظومة غربية أوسع تعتمد عيار 120 ملم، مما يسهل الإمداد في حالات الطوارئ — وهو درس قاسٍ تعلمته بولندا من الحرب في أوكرانيا.

صورة أرشيفية لدبابة K2 لدانيال وجسيك

هل تتحقق “بولندية” K2 فعلاً؟

رغم أن عقد الإنتاج المحلي في غليفيتسه يُعد تقدمًا صناعيًا، إلا أن حجم الاستقلالية التقنية والقدرة على الابتكار لا يزال موضع تساؤل. فبحسب كوتشارسكي، فإن المفاوضات الأولى لم تتضمن بشكل واضح حقوق التصنيع المحلي، ولم يتم تدارك هذا القصور إلا في الاتفاق الثاني الموقّع مؤخرًا. وحتى بعد ذلك، فإن النطاق لا يزال محدودًا — ما يعني أن بولندا لا تزال تعتمد على الجانب الكوري بشكل أساسي.

صورة ملفية لدبابة أندرس من إنتاج شركة OBRUM

بين الطموح والواقعية: هل ضاعت الفرصة؟

ربما يكون السؤال الأكبر الذي يطرحه هذا المسار هو: هل فقدت بولندا فرصتها في أن تكون دولة مصنعة ومصدّرة للدبابات؟ من الناحية النظرية، كانت تمتلك المعرفة والخبرة، وحتى المسار التطويري المتسلسل. لكن في واقع الأمر، غابت الإرادة السياسية، وتضاربت المصالح بين الجهات الرسمية، وسادت عقلية “الشراء الجاهز” على حساب التصنيع الوطني. وهكذا، بدلاً من أن تكون دبابة PT-2000 فخر الصناعة البولندية، أصبحت K2PL رمزًا للواقعية الصناعية في زمن التهديدات الملحة.

إقرأ ايضَا…

الهند وباكستان: صراع السماء بين التفوق العددي والتكتيك السريع

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى