الاقتصاد

رؤساء بلا رقابة: هل يتغير شكل القيادة في كبرى الشركات البريطانية؟

في أروقة كبرى الشركات البريطانية، يتزايد الجدل حول تركيز السلطة التنفيذية في يد شخص واحد يجمع بين منصبي الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس الإدارة. ومع اشتداد الأزمات وتكرار الفضائح المالية وسوء الإدارة، بدأت الأصوات تتعالى بضرورة إعادة النظر في هذا النموذج الذي بات يثير القلق بين المستثمرين والمشرعين على حد سواء.

في بريطانيا، وعلى عكس كثير من الاقتصادات الغربية المتقدمة، لا يزال الدمج بين المنصبين أمرًا شائعًا. ورغم توصيات الحوكمة الجيدة التي تنصح بالفصل بين المهام التنفيذية والرقابية، فإن أكثر من 10 شركات مدرجة على المؤشر الرئيسي لبورصة لندن تحتفظ بهذا الترتيب، ما يطرح تساؤلات جادة حول مدى التزامها بمبادئ الشفافية والمساءلة.

صعود جزر السلطة التنفيذية

الرئيس التنفيذي هو من يدير العمليات اليومية، بينما رئيس مجلس الإدارة يُفترض أن يراقب أداء الإدارة ويمثل مصالح المساهمين. حينما يجمع شخص واحد بين الوظيفتين، تصبح الرقابة الذاتية هي القاعدة، وهو أمر يتنافى مع أبسط مبادئ الحوكمة. ورغم التبريرات التي تقدمها بعض الشركات حول “الكفاءة” و”الاستمرارية”، إلا أن هذه الحجج لم تعد تقنع الكثير من المراقبين.

درس جلاكسو سميثكلاين

من أبرز الأمثلة على التحول الإيجابي، شركة GSK البريطانية العملاقة، التي فصلت في عام 2022 بين المنصبين التنفيذي والرقابي في إطار عملية إعادة هيكلة شاملة. وقد أشار محللون إلى أن هذا القرار ساهم في تحسين علاقات الشركة مع المستثمرين ورفع منسوب الثقة في إدارتها. التجربة أكدت أن الفصل يمكن أن يحقق توازنًا صحيًا بين الطموح التنفيذي والرقابة المؤسسية.

المساهمون يرفعون الصوت

صناديق الاستثمار الكبرى بدأت تفرض شروطًا صارمة على الشركات التي تستثمر فيها، وتشترط وجود هياكل حوكمة متوازنة. في بعض الحالات، طالبت هذه الصناديق علنًا بفصل المنصبين، ملوّحة بتقليص حصصها أو التصويت ضد إعادة تعيين المسؤولين التنفيذيين. هذا التحول يعكس إدراكًا متزايدًا بأن الجمع بين السلطة التنفيذية والرقابية يشكل مخاطرة استراتيجية.

الولايات المتحدة تغير نهجها

على الرغم من أن النموذج الأمريكي طالما سمح بدمج المنصبين، فإن السنوات الأخيرة شهدت تغيرًا في المزاج العام. أكثر من نصف شركات مؤشر S&P 500 باتت تفصل بين المنصبين، وسط ضغوط من المستثمرين ونقابات العمل وهيئات الرقابة. ويبدو أن بريطانيا قد تجد نفسها معزولة في حال استمرت في تجاهل هذه التوجهات العالمية.

معايير مزدوجة

اللافت أن بعض الشركات البريطانية التي ترفض الفصل بين المنصبين في الداخل، تلتزم بهذه القواعد عندما تنشط في أسواق خارجية، خاصة في الولايات المتحدة. هذا السلوك يكشف عن نوع من “ازدواجية المعايير” التي قد تضر بسمعة لندن كسوق مالية تخضع لأفضل ممارسات الحوكمة.

الحكومة تحت الضغط

مع تصاعد الدعوات لإصلاح قوانين الحوكمة، تجد الحكومة البريطانية نفسها أمام معضلة. فهي من جهة تسعى لجعل لندن أكثر جذبًا للشركات العالمية بعد البريكست، ومن جهة أخرى تواجه انتقادات بسبب تقاعسها عن فرض معايير تنظيمية صارمة. بعض المشرعين باتوا يدفعون باتجاه تبني تشريعات تلزم الشركات الكبرى بالفصل بين المنصبين.

الاستقلالية تحت المجهر

في غياب رئيس مستقل لمجلس الإدارة، تضعف قدرة المجلس على محاسبة الإدارة التنفيذية أو حتى تحدي قراراتها. هذا الغياب قد يؤدي إلى تغاضي عن الفشل الاستراتيجي، وتراكم للقرارات قصيرة الأجل على حساب استدامة النمو. في زمن الأزمات والتغيرات الجذرية، تحتاج الشركات إلى نماذج قيادة مرنة ولكن خاضعة للمساءلة.

مستقبل القيادة في الميزان

يبدو أن مستقبل نموذج القيادة في الشركات البريطانية يمر بلحظة حاسمة. فإما أن تتبنى الشركات فصلًا واضحًا بين القيادة التنفيذية والرقابة المؤسسية استجابة للتحديات المعاصرة، أو تخاطر بفقدان ثقة الأسواق والمستثمرين. ما هو مؤكد أن “رؤساء بلا رقابة” لم يعد مقبولًا في عالم بات يطلب أكثر من مجرد الأرباح: يطلب الشفافية والمساءلة والحوكمة الحقيقية.

أقرا أيضا

العملة الرئيسية في التجارة .. سعر الدولار في البنوك المصرية 19 يوليو

نوران الرجال

نوران الرجال باحثة اقتصادية وكاتبة صحفية متخصصة في شؤون النقل البحري والاقتصاد البحري، وتشغل عضوية لجنة النقل البحري بالجمعية العمومية العلمية للنقل. كما تتولى منصب المدير العام لمركز العربي للأبحاث البحرية والاستراتيجية، حيث تسهم في صياغة الرؤى وتقديم الدراسات الداعمة لتطوير قطاع النقل البحري في المنطقة العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى