فضيحة إبستين تعود للواجهة: رسائل مؤثرة تكشف شبكة علاقاته الواسعة

في واحدة من أكبر الهزّات الأخلاقية التي تعصف بالنخبة السياسية والثقافية في الغرب، عادت قضية رجل المال والأعمال الراحل والمجرم الجنسي المدان جيفري إبستين إلى صدارة المشهد الإعلامي والسياسي بعد أن كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن كنز من الرسائل الخاصة والصور غير المنشورة سابقًا. هذه الوثائق المسربة، والتي كُتبت له كهدية بمناسبة عيد ميلاده الـ63 عام 2016، كشفت النقاب عن شبكة معقدة من العلاقات التي جمعت بين إبستين وشخصيات سياسية وثقافية وأكاديمية من الصف الأول، بينهم رؤساء دول ومخرجون وفلاسفة وشخصيات تكنولوجية بارزة.
شخصيات مرموقة في مرمى الشبهات الأخلاقية
الوثائق المسربة كشفت عن رسائل شخصية بعثها العديد من الأسماء اللامعة في السياسة والثقافة والفكر إلى إبستين، متجاوزة الحرج المرتبط بماضيه المدان، واصفة إياه بـ”جامع البشر” و”صاحب الفضول الذي لا حدود له”. من أبرز هذه الرسائل، تلك التي أرسلها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك وزوجته، والتي جاء فيها:
“لا حدود لفضولك… أنت كتاب مغلق بالنسبة للكثيرين، لكنك تعرف كل شيء عن الجميع.”
كما أبديا في ختام الرسالة أمنيات بأن تستمر صداقتهم مع إبستين طويلاً وأن يشاركهم الولائم لسنوات قادمة، ما يعكس علاقة اجتماعية وطيدة، تُطرح الآن في سياق مريب بعد تفجر القضية.
حفلات العشاء المشبوهة: سحر سطحي يغلف قبحًا داخليًا
من بين المساهمين أيضًا في الرسائل، المخرج الأمريكي الشهير وودي آلن، الذي وصف حفلات العشاء في منزل إبستين الواقع في الجانب الشرقي من مانهاتن بأنها “دائمًا ممتعة”، وضمت خليطًا من السياسيين والعلماء والسحرة والمفكرين وحتى أفراد من العائلات الملكية.
ما يلفت النظر هو وصف آلن لنادلات تلك الحفلات، وهن غالبًا “فتيات شابات” كما قال، واصفًا حضورهن بـ”مشابه لفتيات دراكولا الثلاث اللواتي يخدمن القلعة”، في تشبيه أثار حفيظة الكثيرين، نظراً للطابع الجنسي الذي بات معروفًا عن تلك الحفلات.
صمت واسع ونفي حذر: ردود الأسماء المتورطة
بينما رفضت غالبية الشخصيات التي وردت أسماؤها في الوثائق التعليق على محتواها، اكتفى البعض بالنفي أو بالقول إنهم لا يذكرون تلك الرسائل. من بين هؤلاء الفيزيائي الشهير لورانس كراوس، ورجل الإعلام مورتيمر زوكرمان، والفيلسوف نعوم تشومسكي وزوجته، ومدير معهد MIT الإعلامي السابق جويتشي إيتو.
الرسائل تكشف عن علاقات غير رسمية ولكن وثيقة بين هؤلاء وإبستين، ما يثير تساؤلات حول مدى معرفة هذه الشخصيات بأنشطته الإجرامية آنذاك، ومدى انخراطهم المباشر أو غير المباشر فيها، أو على الأقل سكوتهم المريب عنها.
قصر من الرعب: منزل إبستين كمرآة لانحرافه النفسي
بجانب الرسائل، نشرت الصحيفة صورًا حصرية من داخل قصر إبستين المؤلف من سبعة طوابق في قلب مانهاتن. تضمنت الصور مشاهد مخيفة، كتمثال لنمر محنط، ونسخة أصلية من رواية لوليتا المعروفة بطابعها البيدوفيلي، وهي معروضة بوضوح في مكتبه الخاص.
وفي غرفة “المساج”، التي قال العديد من ضحاياه إنهم تعرضوا فيها للاعتداء، تظهر الصور لوحات لنساء عاريات، ورفوف مليئة بزجاجات زيوت، وسلسلة حديدية ضخمة من الفضة، في دلالة رمزية لافتة عن العلاقة بين المال، والسيطرة، والانحراف.
ألبوم الصور: شبكة من الأسماء من كافة أطياف النفوذ
داخل المنزل، عُلقت عشرات الصور المؤطرة لإبستين مع شخصيات مرموقة مثل بيل كلينتون، وإيلون ماسك، وريتشارد برانسون، ومحمد بن سلمان، وستيف بانون، وبابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، إضافة إلى صور له مع غيلين ماكسويل، المتهمة الرئيسية المساعدة لإبستين، والتي تقضي الآن حكمًا بالسجن لمدة عشرين عامًا بتهم الاتجار الجنسي بالقاصرات.
كما تضمنت الصور ورقة نقدية موقعة من بيل غيتس كتب عليها: “كنت مخطئًا!”، ووصفتها الصحيفة بأنها ربما كانت “دفعة لخسارة رهان”، ما أضاف مزيدًا من الغموض حول نوعية العلاقة بين إبستين والملياردير التكنولوجي.
تساؤلات سياسية: ما الذي تخفيه وزارة العدل الأمريكية؟
عودة الاهتمام بهذه القضية لا تأتي فقط من التسريبات الجديدة، بل أيضًا من تراجع إدارة الرئيس دونالد ترامب عن وعودها السابقة بنشر كافة الوثائق المرتبطة بإبستين، ما أثار عاصفة من الغضب في الأوساط السياسية والإعلامية، شملت حتى مؤيدين سابقين للرئيس.
وكانت صحيفة وول ستريت جورنال قد نشرت أن ترامب كتب لإبستين بطاقة تهنئة في عيد ميلاده الخمسين عام 2003 تتضمن رسمًا لامرأة عارية وتوقيعه الشخصي، وهو ما نفاه ترامب لاحقًا ورفع دعوى تشهير ضد الصحيفة.
لقاءات خلف الأبواب المغلقة: هل بدأ الابتزاز المضاد؟
في تطور لافت، أرسلت وزارة العدل مساعد النائب العام تود بلانش—أحد محامي ترامب السابقين—لزيارة ماكسويل في سجنها نهاية يوليو. ووفق التقارير، جرى الاجتماع على مدى يومين خلف الأبواب المغلقة، لبحث ما إذا كانت لديها “معلومات عن شخصيات ارتكبت جرائم ضد الضحايا”.
في اليوم التالي للاجتماع، نُقلت ماكسويل من سجنها في فلوريدا إلى منشأة أقل أمنًا في تكساس، في خطوة أثارت مزيدًا من التساؤلات حول ما قد تكون قد كشفته في الجلسات المغلقة.
حين تصبح الحقيقة لعبة قذرة بين السلطة والعار
قضية إبستين ليست فقط قصة رجل ثري مارس انحرافه الجنسي تحت حماية شبكة من الصمت، بل مرآة قاتمة تُظهر حجم التداخل بين المال، والنفوذ، والانحلال الأخلاقي. إعادة فتح الملف اليوم تُسلّط الضوء على تواطؤ نخب ثقافية وسياسية وعلمية كانت تزعم الوقوف في صف المبادئ، لكنها كانت على موائد إبستين تغض البصر.
مع نشر هذه الوثائق، بات السؤال المطروح ليس فقط من كان يعرف، بل من كان شريكًا بالصمت، أو الفعل، أو حتى المجاملة.
فهل تكون هذه الوثائق نهاية فصل أم بداية لانهيار جدار الصمت الطويل؟ الأيام القادمة قد تكشف ذلك… أو لا.