عرب وعالم

بوتين بين العلم والخلود: هوس سياسي بتجاوز حدود العمر

 

في لحظة نادرة التقطتها عدسات الإعلام العالمي، التقط ميكروفون مفتوح في بكين حوارًا غير عادي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جينبينغ، حيث انزلق النقاش من حدود السياسة والاقتصاد إلى سؤال وجودي قديم: هل يمكن للعلم أن يمنح القادة عمرًا بلا نهاية؟ بدا المشهد وكأنه مقتبس من أحد أفلام الجاسوسية؛ زعيمان سبعينيان يتحدثان عن زرع الأعضاء وتجديد الحياة، بينما يقف إلى جوارهما كيم جونغ أون الشاب نسبيًا بابتسامة غامضة وكأنه يستمع لدرس في كيفية البقاء على العرش.

لكن خلف الطرفة تكمن حقيقة أكثر عمقًا: بوتين لم يُخفِ يومًا هوسه بالصحة وطول العمر. فبينما رسّخ سلطته في الكرملين عبر تعديلات دستورية تتيح له البقاء حتى 2036، كان يضخ أموالاً هائلة في أبحاث طبية متقدمة تتراوح بين زراعة الأعضاء وطباعة الأنسجة ودراسة الجينات. بالنسبة له، ليس البقاء السياسي مجرد قضية إرادة أو أمن، بل مسألة بيولوجية أيضًا. هذه الفلسفة تمثل امتدادًا لتاريخ طويل من حكام سعوا إلى إكسير الحياة، من أباطرة الصين إلى قياصرة روسيا، لكنها اليوم تأخذ شكلًا أكثر “علمية” وتكنولوجية.

إن حوار بكين كشف ما يشغل بال قادة العالم المستبدين: كيف يمكن لسلطتهم أن تتحدى الزمن نفسه. ولعلّ ما يبدو للبعض مجرد حكاية ساخرة يختزل في الواقع مخاوف أعمق تتعلق بالشيخوخة، والسلطة، وغياب أي خطط واضحة للخلافة.

الميكروفون المفتوح: حين تسرّبت أحلام الخلود إلى العلن

المشهد الذي وقع في بكين لم يكن مجرد زلة بروتوكولية، بل كشف عن هواجس حقيقية. بوتين يتحدث عن زراعة أعضاء متكررة تجعل الإنسان “أصغر وربما خالداً”، وشي يرد متوقعًا أن يعيش البشر حتى 150 عامًا. في الخلفية، بدا كيم جونغ أون كالمستمع المتفاجئ من جدية النقاش. هذا الحوار القصير أثار ضجة عالمية لأنه أعطى لمحة نادرة عن عقلية زعماء يخططون ليس فقط للبقاء السياسي، بل للبقاء الجسدي أيضًا. وقد فسّر كثيرون أن النقاش لا يعكس نزوة عابرة، بل انشغالاً حقيقيًا بسباق ضد الزمن، حيث يقترن البقاء في السلطة بالقدرة على إطالة الحياة نفسها.

من تشين شي هوانغ إلى بوتين: استمرارية الحلم الإمبراطوري بالخلود

لم يكن بوتين أول حاكم يطارد فكرة الحياة الأبدية. الإمبراطور الصيني الأول تشين شي هوانغ ابتلع مركبات الزئبق بحثًا عن إكسير الحياة، فمات سريعًا. الإسكندر الأكبر جاب الأساطير بحثًا عن “ماء الحياة”. وفي العصر الحديث، ظهر سيلفيو برلسكوني بعمليات زرع شعر وحقن دم ليبدو وكأنه لا يشيخ. بوتين، بالمقابل، يقدّم نسخة أكثر “حداثة” من هذا الهوس القديم، مستخدمًا العلم والطب كأدوات لإطالة حكمه. التاريخ إذن لا يعيد نفسه حرفيًا، لكنه يكشف عن نمط متكرر: كل حاكم مطلق يبحث عن وسيلة لتمديد سلطته عبر إطالة جسده.

غياب خطط الخلافة: عندما يصبح الجسد سياسة

النقاش حول الخلود لا ينفصل عن سؤال الخلافة. بوتين عدّل الدستور ليبقى حتى سن الثالثة والثمانين، شي ألغى تقاليد الحزب في إعداد خلفاء، وكيم يورّث السلطة بالدم. في هذا السياق، يصبح الجسد السياسي نفسه معادلاً لمصير الدولة. أي تدهور صحي أو موت مفاجئ قد يفتح الباب لأزمة كبرى، ولذلك يُنظر إلى إطالة العمر ليس بوصفه رفاهية شخصية، بل شرطًا لاستمرار النظام. هذا الخلط بين الجسد والسياسة هو ما يميز الأنظمة الشمولية عن الديمقراطيات التي تملك آليات تناوب على السلطة.

طب النخبة: جيش من الأطباء خلف الكرملين

بحسب شهادات صحفيين روس، يسافر بوتين دائمًا محاطًا بفريق طبي متكامل من مختلف التخصصات. هذا الوجود الدائم لا يعني بالضرورة أنه مريض، بل أنه مهووس بالمتابعة الصحية الدقيقة. الفريق يشمل خبراء في جراحة الأورام وأطباء أعصاب وأخصائيين في الطب البديل. الرسالة واضحة: صحة الرئيس أولوية قصوى، ليس فقط لأنه إنسان، بل لأنه يمثل بقاء النظام برمته. هذا الحضور الطبي الكثيف يعكس أيضًا تصورًا أن العلم والطب يمكن أن يتحولا إلى أدوات للحكم.

مراكز أبحاث الخلود: العلم في خدمة السلطة

الصديق المقرب من بوتين، ميخائيل كوفالتشوك، يقود جهودًا علمية ضخمة في روسيا تحت شعار تطوير تقنيات المستقبل. من طباعة الأعضاء بخلايا بشرية إلى مشاريع الجينوم، يحصل على تمويل بملايين الدولارات من الدولة. ابنة بوتين الكبرى، ماريا فورونتسوفا، متخصصة في الغدد الصماء وتتولى مشاريع بحثية عن إطالة العمر. ما يجمع بين الاثنين أن العلم لم يعد حقلًا أكاديميًا محايدًا، بل أصبح جزءًا من مشروع سياسي يهدف إلى ربط بقاء النظام ببقاء الجسد.

الثقافة والخيال: الخلود يتسلل إلى الأدب الروسي

الهوس بالخلود لم يبق في المختبرات بل وصل إلى الثقافة الشعبية الروسية. رواية ساخرة بعنوان “الفأر” (2024) تخيلت فأرًا معديًا يهرب من معمل يطوّر دواءً لإطالة عمر بوتين. الكاتب نفسه اعترف أن إلهامه جاء من الواقع، حيث بدا أن هوس السلطة بالحياة الأبدية أصبح مادة للتندر والخيال. بهذا المعنى، تحوّل “الخلود” إلى رمز ثقافي يعكس مفارقة بين جدية النظام وسخرية المجتمع.

دروس من برلسكوني ونزارباييف: حدود العلم والسياسة

محاولات حكام آخرين لإطالة شبابهم لم تحقق النتائج المرجوة. برلسكوني مات بمرض روتيني رغم كل عملياته، ونزارباييف أُزيح من المشهد السياسي رغم تمويله معاهد لبحوث الجينات. هذه التجارب تذكّر بأن العمر البيولوجي يفرض في النهاية حدوده، وأن الهوس بالخلود قد ينتهي إما بالموت الطبيعي أو بالتقاعد السياسي القسري. لكن بوتين، وقد شهد مصائر هؤلاء، يبدو عازمًا على دفع التجربة أبعد، حتى لو بدت مستحيلة.

الخلود كمرآة لقلق الزعماء المستبدين

في النهاية، النقاش عن زراعة الأعضاء والخلود يكشف أكثر مما يخفي. إنه مرآة لقلق داخلي لدى قادة يشعرون بأن زمنهم محدود، لكن سلطتهم بلا بديل واضح. بوتين وشي وكيم لا يناقشون المستقبل فقط، بل يواجهون رعب النهاية الشخصية والسياسية. قد ينجح العلم في زيادة متوسط العمر، لكنه لا يستطيع حل معضلة الخلافة ولا إيقاف عجلة التاريخ.

اقرا ايضا

سعر الدولار اليوم الخميس 5 سبتمبر 2025: استقرار نسبي في البنوك المصرية وسط توقعات بتقلبات اقتصادية منه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى