من الاعتدال الي السطلويه: تحولات اليمن البريطاني بين الشعوب والتطرف

منذ عقود طويلة، ارتبطت صورة المحافظين البريطانيين بفكرة “الاعتدال” السياسي والابتعاد عن الخطابات الحادة التي ميزت اليمين المتطرف في أوروبا خلال القرن العشرين. لكن السنوات الأخيرة حملت تحولات جذرية جعلت هذا الاعتدال موضع شك. فالمفردات السياسية تغيرت، والخطوط الحمراء التي كان من المستحيل تجاوزها باتت اليوم تُكسر بشكل متكرر. ومع تراجع مصداقية السياسات الاقتصادية النيوليبرالية بعد أزمة 2008، وخيبة الأمل من مشاريع كبرى مثل بريكست والتقشف، وجد اليمين البريطاني نفسه أمام فراغ أيديولوجي حاول ملأه بخطاب يقوم على “ثقافة الخوف” والهجوم على قضايا الهجرة والتعددية وحرية الصحافة. وفي ظل حالة الغضب من فقدان السلطة، والصعود المتجدد لحزب العمال بقيادة كير ستارمر، أصبح المزاج العام داخل اليمين أكثر عدائية وراديكالية. هذا الانزياح إلى أقصى اليمين، بتشجيع من شخصيات مثل نايجل فاراج وروبرت جنريك، لا يهدد فقط مستقبل المحافظين كحزب تقليدي، بل يعيد تشكيل الحياة السياسية البريطانية برمتها. فما هي جذور هذه التحولات؟ وما السيناريوهات المحتملة لمستقبل المشهد السياسي في بريطانيا؟
من الاعتدال إلى كسر المحرمات السياسية
لطالما افتخر اليمين البريطاني بكونه مختلفًا عن نظرائه في دول أوروبية أخرى، حيث كان يبتعد عن الخطابات العنصرية المباشرة أو الدعوات السلطوية. لكن الواقع الحالي يكشف أن هذا “الاعتدال” لم يعد قائمًا. شخصيات من حزب المحافظين ومن حزب الإصلاح الجديد باتوا يستخدمون لغة حادة تجاه قضايا الهجرة والتعددية، وصلت أحيانًا إلى التشكيك في شرعية المؤسسات الديمقراطية نفسها. هذه التحولات جعلت المقارنات مع خطابات الماضي، مثل خطاب إينوك باول في الستينيات أو دعاوى الفاشية في الأربعينيات، أكثر حضورًا. الجديد أن هذه المواقف لم تعد تُعاقب سياسيًا كما في السابق، بل تجد دعمًا واسعًا في الإعلام اليميني والشارع الغاضب. هذا الانزياح أزال الفواصل بين اليمين المحافظ التقليدي والتيارات الراديكالية، ليظهر مشهد جديد يخلط بين النزعة الشعبوية والسلطوية في آن واحد.
أزمة ما بعد 2008 وفقدان الثقة بالسياسات الاقتصادية
أحد أهم محركات هذا التحول هو انهيار الثقة في السياسات الاقتصادية التي شكلت العمود الفقري لليمين البريطاني منذ عهد مارغريت تاتشر. فالأزمة المالية العالمية عام 2008 لم تؤدِّ فقط إلى تراجع معدلات النمو، بل كشفت هشاشة النموذج القائم على الخصخصة والليبرالية المطلقة. حتى داخل أوساط المحافظين، بدأت الأصوات تتعالى بأن هذه السياسات لم تعد مقبولة شعبيًا. ومع تزايد الفجوات الاجتماعية وارتفاع تكاليف المعيشة، أصبح من الصعب الدفاع عن استمرار النهج الاقتصادي التقليدي. هذا الفراغ الأيديولوجي دفع اليمين إلى البحث عن قضايا بديلة لحشد الجمهور، فتحول التركيز من الاقتصاد إلى الثقافة، ومن مناقشة خطط التنمية إلى تأجيج المخاوف بشأن الهوية والهجرة والسيادة الوطنية.
بريكست والتقشف وخصخصة الخدمات: مشاريع فقدت المصداقية
ثلاثة مشاريع كبرى ميزت خطاب المحافظين لعقدين من الزمن: الخروج من الاتحاد الأوروبي، سياسة التقشف، والتوسع في خصخصة الخدمات العامة. لكن بمرور الوقت، تراجعت مصداقية هذه المشاريع بشكل كبير. فبريكست الذي رُوّج له باعتباره “تحريرًا للسيادة البريطانية” تحول إلى عبء اقتصادي وسياسي. أما التقشف، فقد ساهم في تدهور الخدمات العامة، خصوصًا الصحة والتعليم، وأدى إلى استياء شعبي واسع. وبالنسبة للخصخصة، فهي لم تحقق الكفاءة الموعودة بل أظهرت أزمات حادة في إدارة المرافق الحيوية. أمام هذا الفشل، لم يجد اليمين سوى الانزلاق نحو خطاب بديل يركز على تحميل المهاجرين والاتحاد الأوروبي و”النخب الليبرالية” مسؤولية الأزمات.
ثقافة الخوف وصناعة الانقسام
في غياب إنجازات اقتصادية أو سياسية ملموسة، باتت إستراتيجية اليمين البريطاني تقوم على “ثقافة الخوف”. فبدل تقديم حلول عملية للأزمات، تُستخدم ملفات الهجرة والهوية كأدوات لتأجيج الرأي العام. نايجل فاراج على سبيل المثال وصف الوضع في بريطانيا بأنه “انهيار اجتماعي وشيك”، في خطاب يهدف أكثر إلى إثارة الهلع منه إلى تقديم برنامج سياسي واقعي. هذا التركيز على الانقسام يعكس رغبة في توجيه غضب الشارع بعيدًا عن إخفاقات السياسات الاقتصادية، وخلق عدو خارجي أو داخلي يمكن تحميله المسؤولية. وهكذا أصبح خطاب اليمين يهدد التماسك الاجتماعي الذي لطالما اعتبر ركيزة للاستقرار السياسي البريطاني.
خروج المحافظين من السلطة وغضب اليمين
فقدان حزب المحافظين السلطة بعد عقود من الهيمنة السياسية مثل صدمة قاسية للتيار اليميني. فبالنسبة للعديد من أعضائه، الحكم ليس مجرد تنافس ديمقراطي، بل “حق طبيعي” للحزب الذي قاد بريطانيا في أصعب مراحلها. وصول كير ستارمر إلى رئاسة الحكومة بأغلبية واسعة رغم تراجع شعبية حزب العمال تاريخيًا أثار شعورًا بالإهانة داخل أوساط اليمين. هذه الصدمة دفعت بعض الأصوات إلى مزيد من التطرف في محاولة لاستعادة الجمهور عبر لغة حادة ضد الحكومة الحالية واتهامها بتقويض الهوية الوطنية. حالة الغضب هذه تفسر التصعيد المستمر في خطاب المحافظين وحزب الإصلاح على حد سواء.
فاراج وحزب الإصلاح: نسخة بريطانية من ترامبوية جديدة
حزب الإصلاح بقيادة نايجل فاراج أصبح رمزًا لهذا التحول الراديكالي. الحزب الذي يقدم نفسه كبديل “شعبي” للمحافظين يتبنى خطابًا متشابهًا إلى حد كبير مع ما يطرحه دونالد ترامب في الولايات المتحدة: وعود بترحيل مئات الآلاف من المهاجرين، واتهامات للإعلام بالتحيز، وسياسات تستهدف تقييد حرية الصحافة. بل إن بعض المجالس المحلية الخاضعة لسيطرة الحزب بدأت تفرض قيودًا مباشرة على الصحفيين. هذه النزعة الترامبوية لا تقتصر على الشعارات، بل تعكس مشروعًا سياسيًا يقوم على تقويض المؤسسات الديمقراطية التقليدية تحت شعار “إعادة السلطة للشعب”. وهو ما يثير مخاوف من تحول الإصلاح إلى قوة سياسية أكثر نفوذًا في المستقبل.
إرث جونسون: بين الشعبوية والانزلاق نحو السلطوية
لا يمكن فهم صعود اليمين الراديكالي دون التوقف عند تجربة بوريس جونسون. فقد فتح رئيس الوزراء السابق الباب أمام خطاب شعبوي يخلط بين الدعابة السياسية والانتهازية. جونسون أقال المعتدلين من حزبه، لجأ إلى تعليق عمل البرلمان بشكل غير قانوني، واستخدم خطابًا قوميًا أثار إعجاب اليمين المتطرف. كما استفاد من دعم إعلامي واسع رغم فضائحه المتكررة. هذا الإرث جعل المحافظين أكثر استعدادًا لتبني سياسات أقل التزامًا بالقواعد الديمقراطية وأكثر ميلاً للمواجهة مع المؤسسات. ومن هنا يمكن القول إن “ترامبنة” السياسة البريطانية بدأت فعليًا في عهد جونسون.
سيناريوهات المستقبل: يمين أكثر تشددًا أم انهيار التوازن السياسي؟
المشهد الحالي يوحي بأن اليمين البريطاني أمام مفترق طرق. فإما أن يتجه نحو اندماج المحافظين مع حزب الإصلاح في صيغة جديدة تمزج بين السلطوية والشعبوية، أو أن يشهد مزيدًا من التشرذم والانقسامات الداخلية. السيناريو الأول قد ينتج عنه يمين بريطاني أكثر صلابة وتطرفًا، قادر على منافسة العمال بقوة. أما السيناريو الثاني فقد يؤدي إلى تراجع طويل الأمد وفقدان اليمين لقدرته على استعادة الحكم. في كل الأحوال، فإن تجاوز الخطوط الحمراء في الخطاب السياسي وشرعنة الأفكار السلطوية ستكون لهما آثار طويلة الأمد على الحياة الديمقراطية البريطانية، حتى لو لم يحقق اليمين اختراقًا انتخابيًا كبيرًا.