الوكالات

كيف تخلى السياسيون والمسافرون عن حلم الطيران الأخضر

مع تصاعد التحديات الاقتصادية وضبابية الجدوى التقنية، بدأ الحلم العالمي بالطيران الأخضر يتلاشى. فقد أعادت الحكومات وشركات الطيران توجيه بوصلتها نحو النمو الاقتصادي، ولو على حساب البيئة. ففي الوقت الذي تستعد فيه الأمم المتحدة لاجتماع COP30 لمناقشة تمويل المناخ من القطاعات الملوِّثة، يشهد العالم توسعًا غير مسبوق في الرحلات الجوية، خصوصًا في أوروبا وآسيا وأفريقيا. مشاريع توسيع المطارات الكبرى في لندن وباريس وبرشلونة تعكس هذا التوجه، فيما يبقى الطيران الأخضر عالقًا بين الحلول غير المكتملة مثل الوقود المستدام والطائرات الهيدروجينية، وبين الطلب المتنامي على السفر الجوي. الواقع الحالي يضع مسؤولية ثقيلة على السياسيين والعلماء لإيجاد حلول عملية توازن بين النمو الاقتصادي والالتزامات البيئية قبل أن يتحول الطيران إلى قطاع يهدد المناخ بشكل لا رجعة فيه.

 

توسع المطارات رغم التحذيرات البيئية 

في مطار غاتوِك البريطاني، يعمل المشروع على مدرج ثانٍ بعد موافقة الحكومة الشهر الماضي، ما سيرفع الطاقة الاستيعابية إلى نحو 80 مليون مسافر سنويًا بحلول 2030. وتستأنف مطارات لندن الأخرى خطط التوسع، كما تتجه باريس شارل ديغول وبرشلونة إل برات نحو مشاريع مماثلة. هذا التوسع يأتي في وقت يتوقع فيه تقرير مجموعة “النقل والبيئة” تضاعف أعداد المسافرين جواً في أوروبا بحلول منتصف القرن، مع نمو أسرع في آسيا وأفريقيا نتيجة توسع الطبقات المتوسطة. لكن هذا التوسع يصطدم بتحديات بيئية جسيمة، إذ سيكون من الصعب تقليص الانبعاثات في ظل زيادة الرحلات المستمرة، ما يجعل الطيران الأخضر على المحك.

توسع المطارات الأوروبية يعزز حركة السفر لكنه يهدد أهداف الطيران الأخضر بسبب ارتفاع الانبعاثات.

الطيران وأثره على المناخ 

رغم أن الطيران يمثل حوالي 3٪ فقط من انبعاثات الطاقة العالمية، إلا أن تأثيره الحراري يتضاعف بسبب الغيوم الناتجة عن التكاثف Contrails في الطبقات العليا. ووفق الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، تسهم هذه الغيوم بأكثر من نصف تأثير الطيران على الاحترار العالمي. مشروع Climate Action Tracker وصف جهود إزالة الكربون في القطاع بأنها “حرجة وغير كافية”، متأخرة عن قطاع الشحن البحري. وفي بريطانيا، حذّرت لجنة التغير المناخي من أن الطيران سيصبح القطاع الأكثر تلويثًا بحلول 2040، في ظل صعوبة تقليص انبعاثاته دون خفض عدد الرحلات.

الطيران يملك أثرًا مضاعفًا على الاحترار العالمي ويواجه صعوبة في خفض الانبعاثات دون تقليص الرحلات.

الوقود المستدام.. الحل المكلف والمحدود 

تعتبر شركات الطيران الوقود المستدام SAF الحل الأساسي للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول 2050. يُنتج هذا الوقود من زيوت الطبخ المستعملة والنفايات العضوية، لكنه لا يقلل الكربون عند الاحتراق، وتكلفته أعلى من الوقود التقليدي بمرتين إلى ثماني مرات، مع محدودية الموارد عالميًا. تفرض أوروبا خلط 2٪ من SAF حاليًا على وقود الطائرات، وترتفع النسبة إلى 70٪ بحلول 2040. إلا أن الإنتاج العالمي لا يلبي هذه الأهداف، خصوصًا مع تقليص الصين صادراتها. التحليلات تشير إلى أن النمو المستمر في الرحلات سيُلغي أي مكاسب بيئية، إذ سيستهلك القطاع تقريبًا نفس كمية الكيروسين عام 2049 كما يفعل اليوم.

الوقود المستدام يُعد أمل الطيران الأخضر، لكنه باهظ التكلفة ونادر الموارد ولا يحقق خفضًا فعليًا للانبعاثات.

المصالح السياسية وضرائب الكربون 

تواجه محاولات فرض ضرائب على وقود الطائرات معارضة شديدة من واشنطن وبكين وموسكو، ما أوقف محاولات الاتحاد الأوروبي منذ أكثر من عقد. برنامج CORSIA لتعويض الانبعاثات للطيران الدولي يهدف للحفاظ على صافي الانبعاثات عند 85٪ من مستويات ما قبل الجائحة، لكنه يفتقد للمصداقية بسبب اعتماد السوق على مشاريع محدودة، أبرزها في غويانا. وتؤكد لورانس توبيانا، مبعوثة أوروبا لقمة COP30، أن الرحلات الجوية تدفع ضرائب أقل من السيارات الخاصة، وأن فرض ضريبة تضامنية على المسافرين يمكن أن يدر 1.2 تريليون يورو بحلول 2040، لدعم شبكات السكك الحديدية الأوروبية.

 

حلول مبتكرة.. ومسؤولية الأثرياء 

مع إخفاق الحلول الكبرى، يتجه العلماء إلى مقاربات أصغر مثل تعديل مسارات الطيران لتفادي المناطق الرطبة والباردة، لتقليل الغيوم الحابسة للحرارة. تستخدم شركات مثل غوغل الذكاء الاصطناعي لتحديد المسارات المثلى، وأظهرت تجربة مع أميركان إيرلاينز أن خفض الانبعاثات بهذه الطريقة أرخص من الاعتماد على الوقود المستدام. كما تنمو الدعوات لفرض ضرائب على المسافرين الدائمين وركاب الطائرات الخاصة، إذ تشير دراسة عام 2020 إلى أن 1٪ من سكان العالم مسؤولون عن أكثر من نصف انبعاثات الطيران. ويؤكد نايجل توبينغ، رئيس لجنة التغير المناخي البريطانية، ضرورة أن يدفع المسافرون المستمرون الثمن البيئي الحقيقي.

 

السماء بين الطموح والحدود

يبقى التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة في قطاع الطيران تحديًا معقدًا. فبينما يزداد الطلب على السفر الجوي عالميًا، يظل الطيران الأخضر بعيد المنال بسبب القيود التقنية وتكاليف الحلول المستدامة. السماء التي كانت رمزًا للحرية باتت اليوم ميدانًا لصراع بين الطموح الإنساني وحدود كوكب يختنق، مما يجعل كل رحلة جوية أكثر من مجرد انتقال من مكان لآخر؛ إنها اختبار لقدرة العالم على اتخاذ قرارات جريئة ومسؤولة، لضمان أن يحلق الإنسان بلا أن يختنق الكوكب في المقابل.

اقرا ايضا

تسريب يكشف صفقات مقاتلات روسية مع إيران والجزائر وإثيوبيا

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى