في الذكرى الثمانين لانتصار الحلفاء في أوروبا: شبح الاستبداد يعود
"لن نتخلى عن أوكرانيا، لأننا إذا فعلنا، فستُستعبد، ولن تتوقف الأمور عندها."

في الذكرى الثمانين لانتصار الحلفاء في أوروبا، يعود شبح الاستبداد ليخيّم فوق القارة العجوز، ليس فقط من الشرق، بل أيضًا من الضفة الأخرى للأطلسي. بينما تتذكّر أوروبا بامتنان تضحيات الولايات المتحدة التي ساعدتها على النهوض من تحت
أنقاض النازية، تجد نفسها اليوم، وقد تهاوى الحلف الأطلسي تحت وقع رئاسة ترامب الثانية، تتساءل: هل ما زالت أمريكا حليفة، أم باتت قوة غريبة، بل معادية؟ لقد انقلبت الطاولة، وها هي أوروبا تقف مرة أخرى وحيدة، مصدومة، في لحظة تاريخية يُعاد فيها رسم خرائط القوة والنفوذ، ليس بالسلاح فقط، بل بالكلمات والإهانات والمعاهدات المشبوهة.
لحظة مجد تحولت إلى قلق وجودي
قبل أقل من عام، وقفت الولايات المتحدة وفرنسا جنبًا إلى جنب في شواطئ نورماندي، محتفيتين بالذكرى الثمانين لإنزال D-Day، في لحظة تجديد لعهد التحالف ضد الطغاة. كان خطاب الرئيس بايدن آنذاك واضحًا: “لن نتخلى عن أوكرانيا، لأننا إذا فعلنا، فستُستعبد، ولن تتوقف الأمور عندها.” اليوم، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تلاشى هذا التعهد، وانقلبت حرارة التضامن إلى برود في العلاقات. أوروبا، التي اعتادت الاتكاء على المظلة الأمريكية، بدأت تشك في نوايا حليفها القديم.
ترامب: هدم ممنهج للنظام العالمي
في أشهر قليلة فقط، هزّ ترامب أركان النظام الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. قراراته المتلاحقة، من مهاجمة الجامعات إلى تقويض استقلال القضاء، ومن إذلال حلفاء الناتو إلى تهديد بانسحاب أمريكي فعلي من التزامات ما بعد الحرب، أوصلت أوروبا إلى قناعة قاسية: هذا الرجل لا يرى في التحالفات إلا عبئًا، ولا في المؤسسات الدولية إلا مؤامرات ضد أمريكا.
وكان وصفه للاتحاد الأوروبي بأنه كيان “أنشئ لخداع أمريكا” نقطة تحول نفسية في نظرة أوروبا إلى واشنطن
زلزال معنوي: لقاء ترامب وزيلينسكي
في مشهد وصفه الأوروبيون بأنه “لحظة عار”، وقف ترامب أمام العالم ليوبّخ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، متهمًا إياه بالجحود وتعريض العالم لخطر حرب عالمية. كانت لحظة إهانة مدوية لم تمر مرور الكرام في القارة العجوز،
وأعادت إلى الأذهان لحظات سوداء من تاريخ الانكسارات الأوروبية. كان واضحًا أن ترامب لا يرى في الدفاع عن أوكرانيا مسألة مبدأ، بل ورقة تفاوض وصفقة مؤجلة
فرنسا وألمانيا: بداية تبلور استقلال استراتيجي
في مواجهة الفوضى الأمريكية، سارع القادة الأوروبيون إلى لملمة الصفوف. المستشار الألماني الجديد، فريدريش ميرتس، زار باريس ليؤكد مع الرئيس ماكرون التزامهما بـ”الاستقلال الاستراتيجي”، وهي عبارة باتت تُتداول بكثافة في الأوساط الأوروبية. في مقال مشترك، تعهّد الزعيمان بألا يقبلا بسلام مفروض، وبمواصلة دعم أوكرانيا. ربما تكون هذه اللحظة بداية جديدة لإعادة تعريف العلاقة بين أوروبا وأمريكا، لا كمستعمِر ومستعمَر، بل ككيانات متساوية في القرار والمصير.
اليمين المتطرف يزحف في الداخل الأوروبي
لكن المسألة ليست فقط في ترامب. فإن رياح اليمين القومي التي أوصلته مجددًا إلى الحكم تهب أيضًا داخل أوروبا. من فيكتور أوربان في المجر إلى جورجيا ميلوني في إيطاليا، ومن حزب البديل في ألمانيا إلى التجمع الوطني في فرنسا، يكتسب التيار الشعبوي قوة متصاعدة. هؤلاء يرون في ترامب نموذجًا ويشاركونه الشك في المؤسسات، ورفض الهجرة، وإنكار العلم. هذه التيارات تهدد وحدة القارة من الداخل، وتجعل مشهد الانقسام أكثر تعقيدًا وخطورة.
ذاكرة الحرب: درس لم يُنسَ بعد
غم كل شيء، تحتفظ أوروبا بذاكرة جماعية تجعلها أكثر وعيًا بخطورة الانزلاق إلى الديكتاتورية. فقد عاشت القارة خلال القرن العشرين انهيارات كارثية قادت إلى المحرقة والحرب والخراب. قبور الجنود الأمريكيين في نورماندي، الذين سقطوا دفاعًا عن الحرية، ليست فقط شاهدًا على الماضي، بل تحذيرًا للمستقبل. تعرف أوروبا أن الانهيار يبدأ دائمًا بالتواطؤ، والتطبيع مع الطغيان، والتقاعس عن الدفاع عن المبادئ.
من فيشي إلى الحاضر: التحدي الأخلاقي يتجدد
يكتب روجر كوهين مقاله من مدينة فيشي، رمز الخيانة في التاريخ الفرنسي الحديث. من هذه المدينة التي حكم منها بيتان فرنسا بالتواطؤ مع النازيين، يُذكّرنا الكاتب أن الدفاع عن القيم قد يتطلب العصيان، والمقاومة، وحتى المجازفة بالدولة نفسها.
في عالم يتغيّر بسرعة، ويعود فيه الاستبداد بأقنعة جديدة، تبرز الحاجة إلى شجاعة أخلاقية بحجم اللحظة. فكما قال الشاعر بول فاليري عام 1940: “نحن على منحدر مرعب لا يُقاوم، وكل ما يُخشى أصبح ممكنًا.” لقد حان الوقت لأوروبا أن تنهض،ليس فقط لتدافع عن أوكرانيا، بل عن نفسها، وعن كل ما تمثله.